الخطب > الرَّدُّ على شبهة حدِّ السَّرقة
الرَّدُّ على شبهة حدِّ السَّرقة

خطبة الجمعة الرَّدُّ على شبهة حدِّ السَّرقة
13 / شعبان / 1421 هـ ، 10 / 11 / 2000 م.
• أقوال طارحي الشُّبهة.
• ماذا قال الشَّرع عن هذه الحدود؟
• لماذا جاء الإسلام؟
• حدِّ السَّرقة وشروط إقامته.
• معالجة الإسلام لمشكلة السَّرقة.
• ملائمة الحدِّ للسَّارق.

الحمد لله، الحمد لله ثمَّ الحمد لله، الحمد لله نحمده، نستعين به نستهديه نسترشده، نتوب إليه نتوكَّل عليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، { مَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا * } ، وأشهد أنْ لا إله ألَّا الله وحده لا شريك له، معزُّ المؤمنين وناصرهم، ومخزِ الملحدين وقاهرهم { خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } ، وأشهد أنَّ سيِّدنا وحبيبنا وقائدنا وقدوتنا محمَّداً عبده ورسوله، وصفيُّه وخليله، خير نبيٍّ اجتباه، وهدىً ورحمةً للعالمين أرسله:
بلغَ العُـلا بكمالِـهِ كشفَ الدُّجى بجمالِـهِ
حسُنَتْ جميعُ خصالِهِ صلُّـوا عليـهِ وآلِـهِ
اللَّهمَّ صلِّ على سيِّدنا محمَّدٍ وآله وصحبه، وارضَ عن خلفائه الأربعة الميامين، سادتنا أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليٍّ، وعن سبطيه الأكرمين أبي محمَّدٍ الحسن، وأبي عبد الله الحُسين، وعن أمِّهما فاطمة الزَّهرا، وجدَّتهما خديجة الكبرى، وعن عائشة أمِّ المؤمنين، وعن جميع الآل والصَّحابة، والأهل والأزواج والقرابة، والتَّابعين، وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين، وعنَّا معهم برحمتك يا أرحم الرّاحمين.
{ وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ * } .
أمّا بعد:
أيّها الإخوة المؤمنون:
عوداً على بدءٍ على حديثنا الأوَّل: الإسلام الَّذي هو نورٌ يحاول أعداؤه أنْ يطفئوه؛ ولكنَّ نور الله لا ينطفئ، عوداً على حديثنا الأوَّل الشُّبهات: الَّتي يتعرض لها شبابنا المغترب وشبابنا المستغرب على حدٍّ سواءٍ، شبهاتٍ يأتينا بها الشَّباب بعد أن يقضوا سنين في بلاد الغربة، فتغسل أدمغتهم، وتمسخ شخصيَّاتهم، ويعودوا كأنَّهم أناسٌ آخرون ننكرهم وكأنَّنا ما عرفناهم قبل هذا، وكأنَّهم بُدِّلوا ثمَّ رجعوا إلينا أمساخاً، ذهبوا مؤمنين فرجعوا مشركين، ذهبوا واثقين فرجعوا شاكِّين مشكِّكين…
شبهاتٍ يتعرَّض لها ذاك الشَّاب الَّذي لم يغترب في جسده؛ ولكنَّه استغرب بفكره، راقه النَّموذج الغربيُّ بما فيه من مناقب ومثالب، وحسناتٍ وسيِّئاتٍ، فجعل يقرأ عن الإسلام في كتب المستشرقين، وينسى أنْ يقرأ عن الإسلام في كتاب ربِّه في القرآن، وجعل يقرأ كلام من أساء وذمَّ، وينسى من أحسن ومدح؛ فإذا به تُمسَخ شخصيَّته كذلك الَّذي اغترب، وذلك لأنَّه أتى البيت من غير بابه.
ولقد أطلنا الكلام في شبهاتٍ كثيرةٍ على مدى شهورٍ عديدةٍ، ووصلنا اليوم إلى شبهةٍ هي أشبه بصخرةٍ عنيدةٍ أمام الحوار، وذلك أنَّهم ظنُّوها مثلباً عظيماً في الإسلام، وظنُّوا أنَّها نقطة ضعفٍ، وظنُّوا أنَّهم دخلوا الإسلام من خلالها بحيث لا يستطيع أحدٌ ردَّهم، وظنُّوا أنَّهم أصابوا الإسلام فيها بمقتل، وأنَّ الإسلام إذْ وُجِدَت فيه هذه النُّقرة إذْ وُجِدَ فيه هذا النَّحر؛ فلنْ يقوى على الثَّبات في وجه انتقاداتهم؛ بل في وجه قذائفم وقنابلهم العظيمة الَّتي يودُّون لو نسفوا بها أسَّ الإسلام وأصله لا ظاهره وفرعه…
لقد طرحوا هذه الشُّبهة العظيمة وانطلت هذه الشُّبهة على بعض ضعاف العقول، وكم عانيت من شبابٍ ورجالٍ كهولٍ وشيوخٍ رجعوا من بلاد الغربة وقد صاروا يحملون هذه الشُّبهة ويدافعون عنها! وكأنَّهم إلى غير الإسلام ينتسبون! وكأنَّهم بغير دين القرآن يدينون! لقد قالوا لنا – وصدقهم بعض ضعاف العقول منَّا –: ( لماذا نحافظ على بعض الأحكام الإسلاميَّة الَّتي تتنافى مع تطوِّر الزَّمان وتقدُّم العصر والدَّهر؟! وقد خلفها الزَّمان وراءه، وبخاصَّةٍ تلك الَّتي تمثِّل وحشيَّةً وفظاظةً وقسوةً؟! وتتنافى مع حقوق الإنسان، وتتنافى مع الكرامة البشريَّة؟! ولا تقرُّها الشَّرائع الدَّولية ولا منظمات حقوق الإنسان العالميَّة…؟! وإذا أردتم الإفصاح فإنَّنا نقول لكم يا مسلمون: لماذا تتمسَّكون بعقوباتٍ وحشيةٍ ساق الدَّهر وتجاوزها تعبِّرون عنها بكلمة الحدود؟! فنراكم تدعون إلى إقامة مجتمعٍ إرهابيٍّ، ودولةٍ تحكم المجتمع هذا بحكمٍ عسكريٍّ فظٍّ! فترى هذه الدَّولة دأبها أنْ تقطع الأيدي، ودأبها أن تجلد الأجساد، ودأبها أن ترجم وتقتل…! ضرباً بالسِّيف تارةً وبالحجارة تارةً، وصلباً تارةً أخرى! فما بالكم تزعمون أنَّ دينكم دين سلامٍ، وأنَّ دينكم دين حضارةٍ، وأنَّ دينكم دين رحمةٍ، وأنَّ دينكم دين رأفةٍ… ثمَّ نراكم بهذه الحدود تخالفون كلَّ هذه المزاعم! وتنقضون كلَّ هذه الدَّعاوى العريضة! وإذا بكم أشدُّ النَّاس فظاظةً وأعظمهم قسوةً! إذْ إنَّكم تنتهكون حقوق الإنسان انتهاكاً أيَّ انتهاك! وتسيئون إلى كرامته إساءةً أيَّ إساءة! فما تجيبون على هذه الشُّبهة؟! )…
بلْ إنَّهم يسلفون فيقولون قبل أنْ نجيب: ( لا بدَّ أنَّكم لا تمتلكون الجواب، ومهما أجبتم فلنْ يكون جوابكم مقنعا… إذاً فالإسلام ولَّى وراء ظهره )…!
هذا ما يطرحه أعداء الإسلام الَّذين يظهرون العداء له، فيقولون: ( إنَّ مثل هذه الحدود في الإسلام كفيلةٌ بأنْ تنقض الإسلام عروةً عروة، وكفيلةٌ بأنْ تحلَّ الإسلام عقدةً عقدة، وأنْ لا تدع فيه حكماً صالحاً )…!
وعلى الطّرف الآخر تجد أُناساً أبطنوا حرباً على الإسلام؛ ولكنَّهم لم يظهروها، فإذا بهم يقولون: ( لا، الإسلام دينٌ جميلٌ، الإسلام دينٌ صالحٌ للتَّطبيق، الإسلام دينٌ لطيفٌ في أحكامٍ كثيرةٍ فيه؛ ولكنْ هذه الأحكام الَّتي تسمَّى بالحدود عقوباتٍ جائرةٍ لا تصلح لِأَنْ تطبَّق في هذا الزَّمان… وبما أنَّ الإسلام دينٌ جميلٌ لذلك فنحن ندعو إلى تنقية الإسلام من هذه الشَّوائب… اتركوا الإسلام دعونا نطبِّقه في هذا الزَّمان لأنَّه دينٌ لطيفٌ مسالمٌ جميلٌ، لأنَّه دينٌ ينفع المصلي في مسجده، لأنَّه دينٌ ينفع العابد على سجَّادته…؛ ولكنْ دعونا من هذا الإسلام بفظاظته وقسوته في الأحكام الجزائيَّة المدنيَّة، دعونا من هذا الإسلام في قانون العقوبات… طبِّقوا الإسلام بقانون الأحوال الشَّخصيَّة الَّتي فيه، طبقوا الإسلام إذا تعلَّق الأمر بزواجٍ وطلاقٍ ومواريثٍ… ولكن إنْ تعلَّق الأمر بعقوباتٍ فهاتوا لنا قانون " نابِّليون بونابرت " هاتوا لنا القانون الفرنسيَّ حتَّى نطبِّقه لأنَّه أنفع وأصلح وأكثر رحمة وأكثر مسالمة )…!
بين هؤلاء وأولئك يقف المسلم حائراً، لقد كانت خطَّةً مرسومةً – إخوتي – فلا تظنَّنَّ أنَّ هؤلاء القوم انطلقوا من تلقاء أنفسهم في هذا المبدأ، فقالوا: ( ندع الإسلام ونلغي بعض الأحكام الَّتي فيه )… فإنَّ أعداء الإسلام ظهروا لنا بواجهتين بمظهرين، فبواجهةٍ قالوا لنا: ( دعوا الإسلام كلَّه ولا تطبقوا شيئا فيه )… ولأنَّهم يعلمون أنَّنا لن نتقبَّل هذه الدَّعوة، أوجدوا لنا بديلاً؛ فقالوا في والواجهة الأخرى: ( إذا لم تدعوا الإسلام كلَّه فطبِّقوا معظمه، ودعوا فقط هذه الأحكام الجائرة الفظة الغليظة…! حتَّى يكون دينكم دين حضارة…! حتَّى تستطيعوا نشر هذا الإسلام في الأرض، فإذا دعوت غربيَّاً أو شرقيَّاً إلى دينك وسألك عن حدِّ السَّرقة، فقل له: ليس بالضَّرورة أنْ تقطع يد السَّارق… لأنَّه لن يتقبَّل هذا الحكم، ولأنَّه ستشوِّه صورة الإسلام في عينيه إذا سمع بمثل هذا الحكم، فادعوه إلى إسلام نقيٍّ من هذه الأكدار، مطهَّرٍ من هذه الشَّرائع )…!
ونعود إلى الأصل بعد أنْ سمعنا من هذه الفروع، نعود إلى الأصل لنرى ماذا قال شرعنا في هذه الحدود، أتراه عدَّها مسألةً اجتهاديَّةً تطرأ عليها تغيُّراتٌ على حسْب تطوُّرات الزَّمان؟ أمْ تراه عدَّها أسَّاً ثابتاً، وأصلاً وأرومةً في الإسلام لا يمكن أنْ تطرأ عليها مظاهر التَّبديل والتَّغيير؟
لقد أقرَّ الله جلَّ وعلا الحدود في كتابه صنيعه بالأسس الَّتي لا يمكن أن تُغيَّر، أقرَّ حدَّ السَّرقة، أقرَّ حدَّ الزِّنى، أقرَّ حدَّ الحرابة، أقرَّ حدَّ القذف، ثمَّ جاء المصطفى عليه الصَّلاة والسَّلام ليفصِّل في هذه الحدود تفصيلاً، زائداً وليعلن أنَّ الحدَّ إنَّما هو رحمةٌ بالعباد لا قسوةٌ عليهم، ولو لم يكن للمسلمين إلَّا هذا الحديث الَّذي رواه الإمام أحمد والنَّسائيُّ وابن ماجة وابن حبَّان لكفاهم، لو لم يكن لهم إلَّا هذا الحديث في تبيان غاية الحدِّ وهدفه ومغزاه لكفاهم، إنَّه قول المصطفى عليه الصَّلاة والسَّلام: [ لَئِنْ يقام حدٌّ في أرضٍ خيرٌ لأهلها من أنْ يمطروا أربعين صباحاً ]… إقامة حدٍّ في أرضٍ خيرٌ لأهلها من أن يمطروا أربعين صباحا…! إنَّه إذاً خيرٌ مطلقٌ، إنَّه إذاً خيرٌ عامٌّ، إنَّه خيرٌ اجتماعيٌّ… ألا ترى أنَّ المطر يكون نفعه عامَّاً، ولربَّما تضرَّر امرؤٌ دون غيره بالمطر… تسمع كثيراً من أناسٍ أنَّهم لا يحبُّون المطر، لأنَّ المطر قد يضيِّق دائرة رزقهم بمصلحةٍ معيَّنةٍ ( لأنَّه يمتهن مهنةً بذاتها ) ولكنْ لا يعني هذا أنْ يكون المطر شرَّاً لأنَّه في حقِّ فردٍ من أفراد المجتمع شرٌّ؛ بل إنَّه خيرٌ لأنَّه إذا نُظِر إلى عموم فوائده ومنافعه لوجد أنَّه فائدةٌ ومنفعةٌ، لأنَّه ينفع الجمهور وإنْ أضرَّ بالفرد، لأنَّه ينفع العموم وإنْ أضرَّ بالخصوص… من الباعة أناسٌ يبيعون سلعهم في الشَّارع، فالمطر يؤذيهم، فإذا غامت السَّماء انقبض قلبه، وإذا نزل المطر قد يسبُّ ويلعن هذا المطر…! لأنَّ المطر قطع له رزقه… فهل يمكن أنْ نتمنَّى إيقاف المطر لأنَّ هذا الفرد يتضرر منه؟! لا، لأنَّ في مقابل هذا الفرد أفراداً ينتفعون إذْ يتضرر، ينتفع صاحب الزَّرع، ينتفع صاحب الغنم، ينتفع كلُّ إنسانٍ له علاقةٌ مباشرةٌ بالماء، فالمطر خيرٌ لأنَّه في حقِّ العموم خيرٌ، ولنْ يكون شرَّاً لأنَّه في حقِّ الخصوص شرٌّ، والحدُّ كالمطر؛ بل خيرٌ من المطر، لأنَّ حدَّاً يقام في الأرض خيرٌ لأهلها من يمطروا أربعين صباحاً…
فإذا أردنا أن نبيَّن لأولئك من أجل ماذا كانت الحدود؛ فلا بدَّ منْ أنْ نبيَّن لهم قبل ذلك من أجل ماذا كان الإسلام، فلا بدَّ من أنْ يعرفوا مقصد الشَّرع عموماً قبل أنْ يعرفوا المقاصد الخاصَّة لأحكام هذا الشَّرع، من أجل ماذا كان الإسلام إخوتي؟ أنا أسألكم فهل تجيبون؟ لقد جاء الإسلام من أجل الإنسان… ومصلحة الإنسان مثَّلها الإسلام في الضَّروريَّات الخمس، جاء الإسلام لحفظ ضروريَّاتٍ خمس، جاء لحفظ الدَّين، ولحفظ النَّفس، ولحفظ العقل، ولحفظ العرض والنَّسب، ولحفظ المال، خمس ضروريِّاتٍ عليها مدار الحياة البشريَّة، وإذا صلحت صلحت حياة الإنسان في دنياه وفي آخرته، جاء لحفظ دينٍ، ولحفظ نفسٍ، ولحفظ عقلٍ، ولحفظ عرضٍ ونسبٍ وهما واحد، ولحفظ مالٍ، هذه الغاية ( حفظ الضَّروريَّات ) الَّتي هي غاية الإسلام ككلٍّ هي غاية الحدود بشكلٍ خاصٍّ
• فأمَّا حدُّ الرِّدَّة الَّذي هو القتل فلقد كان لحفظ الدِّين [ من بدل دينه فاقتلوه ].
• وأمَّا القصاص الَّذي يقضي بقتل من يقتل، وسفك دم من يسفك دماً بغير حقٍّ { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } فإنَّه كان لحفظ النَّفس.
• وأمَّا حدُّ السَّرقة فلقد كان هذا الحدُّ لحفظ المال.
• وأمَّا حدُّ الحرابة فكان لحفظ النَّفس والمال معاً، كان لحفظ النَّفس والمال من قطَّاع الطَّريق الَّذين يسفكون الدِّماء ويسلبون الأموال.
• وأمَّا حدُّ شرب الخمر الَّذي هو الجلد أربعين جلدةً أو ثمانين جلدةً فلقد كان لحفظ العقل.
• وأمَّا حدُّ الزِّنى، وحدُّ القذف فلقد كانا من أجل حفظ النَّسب ومن أجل حفظ العرض.
هذه هي كلُّ الحدود الَّتي أقرها الشَّرع، وكلُّها يصبُّ في هذه الضَّروريَّات، في حفظ الضَّروريَّات الَّتي من أجلها شرَّع الله هذا التَّشريع، ومن أجلها أنزل الله هذا الوحي، ومن أجلها سنَّ الله هذا الدَّين، حدُّ الرِّدة لحفظ الدِّين، والقصاص لحظ النَّفس، وحدُّ السَّرقة لحفظ المال، وحدُّ الحرابة لحفظ النَّفس والمال معاً، وحفظ شرب الخمر لحفظ العقل، وحدُّ الزِّنى وحدُّ القذف لحفظ العرض والنَّسب، هذا من حيث أصل تشريع هذه الحدود؛ فلا اعتراض إذاً على شرعٍ يحفظ للإنسان حياةً كريمةً، ولا اعتراض على شرعٍ يقرُّ للإنسان حياة آمنة يأمن فيها على نفسه، يأمن فيها على دينه، يأمن فيها على عقله، وعرضه وماله…
أما وقد عُلِمت الغاية فلا بدَّ من نقد الأسلوب ( من نقد الوسيلة )، الغاية اتُّفق عليها بأنَّها سامية، ولكنَّ الأسلوب يقولون لنا إنَّه فظٌّ، لقد كان يمكن أن تُحفظ هذه الضَّروريات بأسلوبٍ ألطف، بأسلوبٍ أرفق، بأسلوبٍ أرحم وأرأف… فلا بدَّ إذاً من أنْ نتكلَّم عن هذا الأسلوب.
لمَ كانت هذه القسوة الظَّاهرة؟ ولمَ كانت هذه الأحكام الَّتي يظهر من ظاهرها أنَّها جائرة؟ ولنأخذ حدَّ السَّرقة على سبيل المثال، حدَّ السَّرقة الَّذي سنَّه الله جلَّ وعلا في كتابه، من هنا كان السَّاخر من حدِّ السَّرقة، والمنكر لحدِّ السَّرقة، والدَّاعي إلى تعطيل حدَّ السَّرقة معتبراً أنَّه خلَّفه الزَّمان وراءه… كافراً لأنَّه أنكر نصَّاً قرآنيا، تلك الآية الَّتي نزلت في سورة المائدة، في قول الله سبحانه: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } قرأ ابن مسعودٍ وقراءته شاذَّة ( والسَّارق والسَّارقة فاقطعوا أيمانهما جزاءً بما كسبا نكالاً من الله والله عزيزٌ حكيمٌ ).
حدُّ السَّرقة حدٌّ قطعيٌّ لا ظنِّيٌّ، نصيٌّ لا اجتهاديٌّ، ثابتٌ لا متغيرٌ، خالدٌ لا زائلٌ… من هنا كان أسَّاً شرعيَّاً، وما كان أسَّاً شرعيَّاً كانت وراءه حكمٌ كثيرةٌ حتَّى يستوعبه كلُّ أحدٍ.
إنَّ أوَّل مسألةٍ في الحدود – إخوتي – رضى النَّاس بها، لأنَّها قانونٌ إلهيٌّ، فالإنسان الَّذي يخضع للدَّولة الإسلاميَّة مؤمنٌ بأنَّ قانونها من الله أنزل، هذا لا يعني أنَّ حكم الدَّولة الإسلاميَّة حكمٌ ثيوقراطيٌّ – كما يقولون – حكمٌ فيه استبدادٌ دينيٌّ؛ لا، بل فيه رضاً مطلق من قبل هؤلاء النَّاس، لأنَّ الله الحكيم هو الَّذي أنزل هذا الحكم، ولأنَّ الإله العالم هو الَّذي سنَّ هذا الشَّرع ولا بدَّ أنَّ وراءه حكمةً بالغةً، من هنا رأينا المذنبين في عهود الإسلام الأول يتَّجهون بأنفسهم إلى الحاكم المسلم ليُقام الحدُّ عليهم.
إنَّ حدَّ القطع كان عُرفاً عند العرب في الجاهلية، ولكنَّ الإسلام – إذْ أقرَّه – ووضع له ملابساتٍ وشروطاً وغاياتٍ كثيرةً، في الجاهلية قطعت العرب، وقطعت قريشٌ خصوصاً، وأوَّل من قطعت يده رجلٌ من بني مليح، مولىً لمُلَيح بن عمرو من خزاعة، سرق كنز الكعبة، وفي رواية أنَّهم سرقوا كنز الكعبة ووضعوه عنده فقطعت يده في ذلك، وفي الإسلام أقرَّ الله تعالى هذا الحكم؛ ولكنْ جعل له شروطاً.
فالشَّرط الأوَّل: أنَّ المال المسروق لا بدَّ من أنْ يبلغ نصاباً، وعلى هذا اتَّفق العلماء إلَّا الظَّاهرية فإنَّهم لم يشترطوا النِّصاب، واستدلوا بحديث البخاريِّ ومسلمٍ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ لعن الله السَّارق، يسرق البيضة فتُقطَع يده، ويسرق الحبل فتُقطَع يده ] قالوا إذاً سرقة البيضة تعني سرقةً موجبةً للحدِّ، ولكنَّ جمهور العلماء لم يأخذوا بهذا الحديث على أنَّه إيجابٌ بالقطع في كلِّ سرقة؛ بل قالوا: إنَّ هذا الحديث يعني أنَّ الَّذي يسرق البيضة يتدرَّج به الأمر حتَّى يسرق شيئاً أكبر منها وأكبر وأكبر… حتَّى يُقام عليه الحدُّ إذا بلغ ما يسرق النِّصاب، واستدلُّوا لهذا بنصوصٍ كثيرةٍ أثبتت نصاباً لحدِّ السَّرقة.
• فأمَّا الإمام مالكٌ فقد رأى أنَّ حدَّ السَّرقة الَّذي يوجب القطع هو ثلاثة دراهم.
• وأمَّا الإمام الشَّافعيُّ فقد رأى أنَّه ربع دينار.
• وأمَّا الإمام أحمد فقد رأى أنَّه ثلاثة دراهم أو ربع دينار.
وهذه الأقوال كلُّها قولٌ واحدٌ لأنَّ الدِّينار الذَّهبيَّ في ذلك الوقت كان اثني عشر درهماً فضيَّاً، وربع الدِّينار ثلاثة دراهم؛ فجُمع بين الأحاديث الَّتي أخذوا بها والَّتي ظاهرها التَّعارض ولا تعارض بينها.
فأمَّا أحاديث الدَّراهم الثَّلاثة فمنها أنَّ النَّبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام قطع يداً في مجنٍّ سُرِقَ، والمجنُّ هو الدِّرع الَّذي يُلبس في الحرب، قطع اليد في مجنّ ( الدِّرع أو التِّرس )، قيل فكمْ كان ثمن ذلك المجنِّ؟ قالت أمُّ المؤمنين عائشة راوية هذا الحديث الَّذي صحَّ عند الشَّيخين وغيرهما: ( ثلاثة دراهم )، وفي عهد عثمان بن عفان – كما روى الإمام مالك بن أنس رحمة الله عليه – قطع عثمان يد رجلٍ في أترجَّة سرقها ( والأترجَّة كما هو معلوم من الثِّمار، الَّتي تسمَّى في زماننا الكبَّاد ) قطع اليد في أترجَّة سُرقت قال: فكم ثمنها؟ (عثمان بن عفان يسأل) قيل له: ثلاثة دراهم؛ فقطع يده، وقد اختلف العلماء في الثِّمار إذا سُرقَت أفيها قطع يدٍ أم لا.
وأمَّا أحاديث ربع الدِّينار فإنِّها صحيحةٌ أصحُّها حديث أمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها، عن رسول الله عليه الصَّلاة والسَّلام، والحديث في الصّحاح يقول: [ تقطع اليد في ربع دينارٍ فصاعداً ] هكذا في رواية الشَّيخين، وفي روايةٍ للإمام مسلمٍ: [ لا تقطع اليد إلَّا في ربع دينارٍ فصاعداً ].
• وأمَّا الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه فقد خالف؛ فقال: إنَّ نصاب السَّرقة هو عشرة دراهم لا ثلاثة دراهم، واستدل بروايةٍ رواها أبو بكر بن أبي شيبة فيها أنَّ المجنَّ الَّذي سُرِق في عهد النَّبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام وأقام الحدَّ في سرقته كان ثمنه عشرة دراهم لا ثلاثة دراهم.
• قال أقوامٌ كمحمَّدٍ الباقر أبي جعفر عليه السَّلام وغيره: بل إنَّ اليد لا تقطع إلَّا في دينارٍ أو في عشرة دراهم.
• قال أقوامٌ: لا تقطع خمسٌ إلَّا بخمسٍ، أي لا تقطع اليد الَّتي هي خمس أصابع إلَّا بخمسة دنانير ذهباً، أو بخمسين درهماً فضَّةً.
مدار هذه الأقوال: أنَّ ثمَّة نصاباً إذا قلَّت السَّرقة عنه فإنَّ اليد لا تقطع، هذا الأمر الأوَّل الَّذي تُدفع به شبهة قطع اليد في كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ.
وأمَّا الأمر الثَّاني: فهو أنَّ من شروط إقامة الحدِّ أنْ لا يكون لهذا السَّارق شبهة تملُّكٍ في المال المسروق، فإذا سرق المال من دكَّان شريكه، وهو وشريكه يملكان الدُّكَّان معاً؛ فلا يقام الحدُّ عليه، لأنَّ له شبهة تملُّكٍ في هذا المال، لأنَّه شريكٌ يسرق من شريكه، لا يقام الحدُّ عليه يعاقب يعزر؛ ولكنَّ التَّعزير لا بدَّ من أنْ يكون دون الحدِّ، ولا يجوز للحاكم أنْ يوصل التَّعزيرات إلى درجة الحدود.
وأمَّا الأمر الثَّالث: فإنَّه لا بدَّ من أنْ يكون المال المسروق محفوظاً في حرزٍ يسمَّى حرز المثل، فمن رأى مالاً في الطَّريق فسرقه يعاقب يعزر، ولكنْ لا يقام الحدِّ عليه لأنَّ صاحب المال لم يكنْ محتاطاً في حفظ ماله، ولم يضع ماله داخل البيت، لذلك فإنَّ الجريمة خفَّت عن السَّارق لأنَّه لم تكن جريمته مع سبق الإصرار والتَّصميم والتَّرصد، إنَّما سرق مالاً سائباً، مالاً مسيَّباً، مالاً لم يحفظ كما يحفظ أمثاله من الأموال… ففي هذه الحالة لا يقام الحدُّ عليه.
ولعلَّ أهمَّ هذه الشُّروط وأعظمها: أنَّ حدَّ السَّرقة لا يُقَام على من سرق ليأكل لا يُقَام على من سرق محتاجاً لا يُقَام على من سرق ليسدَّ رمقه؛ لأنَّ السَّرقة في حقِّ هذا لم تكنْ جريمةً عظيمةً موجبةً لقطع اليد، ألا ترى أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكلام عمر وفعل عمر، ومثله أفعال الخلفاء الرَّاشدين سائرهم تابعٌ……
رضوان الله عليه، في عام الرَّمادة حيث عمَّ الجوع، وعمَّ القحط، وأصاب النَّاس من البلاء ومن السَّغب ما أصابهم، أوقف عمر بن الخطاب حدَّ السَّرقة، ما عاد يقطع الأيدي؛ لأنَّ الَّذين يسرقون في هذه السَّنة ( وهي تسمَّى سنةً مجازاً، وإلَّا فإنَّ عام الرَّمادة عام الجوع استغرق تسعة أشهر فيما يروى )، أوقف حدَّ السَّرقة، فما عاد يقطع الأيدي لأنَّ الَّذي يسرق إنَّما يسرق ليأكل، لأنَّ الَّذي يسرق إنَّما يسرق ليسدَّ رمقه، فإذا لم يجد طعاماً ثمَّ قام فسرق فهل نقيم الحدَّ عليه؟ يرضى الله عن أبي ذرٍّ الغفاريِّ رضي الله عنه إذْ برَّر للجائع أكثر من السَّرقة…! بل برَّر له الثَّورة! والثَّورة أعظم من السَّرقة كما هو يظهر، فالسّرقة هي اعتداءٌ على مِلْكٍ مخصوصٍ لفردٍ من المجتمع، وأمَّا الثَّورة فإنَّما هي اعتداءٌ على أمن المجتمع كلِّه…
لقد بررَّ أبو ذرٍّ للجائع أنْ يثور؛ لا أنْ يسرق فحسب، فقال عليه رضوان الله: (عجبت لمن لم يجد قُوْتَه كيف لا يخرج شاهراً سيفه)…
من هنا لم يعاقب عمر الَّذين سرقوا بسبب الجوع، أوقف حدَّ القطع في عام الرَّمادة لأنَّ السَّرقة كانت لسدِّ الرّمق.
يقول قائل: ( هذه حالةٌ خاصَّةٌ وإلَّا فإنَّها لا تطبَّق في أحوالٍ أخرى )… الجواب: بل تطبَّق، فها هو عمر ذاته يطبِّق هذه الحالة، ها هو – رضوان الله عليه – يطبِّقها في غير عام الرَّمادة، أُتِيَ له بغلمانٍ عبيدٍ عند عبد الرَّحمن بن حاطب بن أبي بلتعة رضي الله تعالى عنه وعن أبيه، أُتِيَ له بغلمانٍ قد سرقوا بعيراً من رجلٍ من مُزينة؛ فنحروه وأكلوه، سألهم عمر عن ذلك فأقرَّوا واعترفوا، اعترفوا بأنَّهم سرقوا البعير من المزنيِّ ونحروه وأكلوه، فأمر عليه رضوان الله بأنْ يُقامَ الحدِّ عليهم، أمر كثير بن الصَّلت أنْ يقطع أيدهم، فلما أدبر كثيرٌ دعاه عمر قال: تعال، ثمَّ التفت إلى عبد الرَّحمن بن حاطب وقال له: ( والله لولا أنِّي أعلم أنَّكم تستخدمونهم وتجيعونهم حتَّى لو أكل أحدهم ما حرَّم الله تعالى لحلَّ له لقطعت أيدهم… ) لولا أنِّي أعلم أنَّهم سرقوا من جوعهم وأنَّك أنت المسؤول عن جوعهم لأنَّك لا تطعمهم كفايتهم لأقمت الحدّ عليهم لقطعت أيديهم، ( والله لولا أنَّي أعلم أنَّكم تستخدمونهم وتجيعونهم حتَّى لو أكل أحدهم ما حرَّم الله تعالى لحلَّ له لقطعت أيديهم، أمَا إذ لم أفعل فلأغرمنك غرامةً توجعك، يا مُزنيُّ كم دفع لك في ناقتك؟ قال: أربع مئة درهم، قال: يا ابن حاطب ادفع له ثمان مئة درهم ثمناً لناقته… ) أيَّة حكمةٍ هذه! من أين جاء ذاك الإنسان العربيُّ الَّذي عاش في غياهب الصَّحراء؟! والَّذي ما تعلَّم السِّياسة عند أفلاطون، ولا قرأ كتاب الجمهوريَّة، ولا درس علوم السِّياسة التّشريعيَّة عند الفرس، أو الرُّوم، من أين أتى بمثل هذه الأحكام الدَّقيقة؟! من أين جاء ذاك الإنسان العربيُّ الَّذي إنْ قرأ وكتب فذلك قمَّة ثقافته وقمَّة علومه؟! من أين جاء بمثل هذه الدِّقة والحكمة؟! من أين جاء العربيُّ بذلك لو لم يكن ذلك من معين الإسلام وينبوعه الصَّافي؟! يحطُّ عن الغلمان مسؤوليَّتهم لأنَّه يقدِّر أنَّهم سرقوا ليأكلوا، ويوجب على هذا المتسبِّب يوجب عليه أنْ يتحمَّل الغرامة… فيغرِّمه غرامةً توجعه بأنْ يدفع ضعف ثمن النَّاقة لذلك الرّجل…
لا يقام الحدُّ على من سرق ليأكل؛ إنمَّا يقام على من سرق ليُترف وليَبذخ وليُسرف… وما أحرى هذا بأن تُقطع يده.
إخوتي لا ينبغي أنْ يكون العاقل طوباويَّاً خياليَّاً في تفكيره، عند الغرب يقولون: (هذا السَّارق إنسانٌ مسكينٌ… هذا المجرم إنسانٌ ذهب ضحيَّة الظُّروف الاجتماعيَّة… إنسانٌ لا ينبغي أنْ ننظر إليه كمجرم… بل ننظر إليه كضحيَّة لأنَّ الظُّروف الاجتماعيَّة هي الَّتي حكمت عليه، لأنَّ التَّربية الفاسدة هي الَّتي حكمت عليه)… كلُّ ذلك كلامٌ جميلٌ، ولكنْ لا ينبغي أنْ يُنسينا أمراً هامَّاً جدَّاً أنَّه مجرمٌ وضحيَّةٌ في آنٍ معاً، وإنْ كان هو ضحيَّةً من جانبٍ فانَّ المجتمع ضحيَّته من جانبٍ آخرٍ، فهل نشفق على الجلَّاد وننسى المجلود؟! أنشفق على الصَّائد وننسى المصيد الَّذي ذهب ضحيته طلقات الصَّائد؟! نعم هو ضحيَّة… ولكنَّه مجرمٌ في الآن ذاته، فلا بدَّ من أنْ نشفق على ضحيته.
قالوا: ( ظروفه الاجتماعية هي الَّتي أدَّت إلى هذا… ) أجبنا من أجل هذا كان الإسلام نموذجاً متكاملاً، لا تتصوَّروا إخوتي أنَّ الإسلام يدعوا فقط لإقامة الحدود… أخبروا أعداء الإسلام والجهلةَ في الإسلام بماذا أمر الإسلام ليحدَّ من جريمة السَّرقة، أخبروهم بأنَّ السَّرقة لم يبقَ لها أثرٌ في دولة المسلمين لأنَّ السَّرقة عُولجت من أصولها، وجُفِّفت منابعها، وسُدَّت روافدها…
أولاً: السَّرقة نتيجةٌ لقلَّة ذات اليد، ونتيجةٌ للفقر في المجتمع، الإسلام عالج هذا الأمر، فهاهو عهد عمر بن عبد العزيز – رحمة الله عليه – يخلوا من الفقراء، هاهم أولاء الولاة في الأمصار يرسلون إلى أمير المسلمين عمر بن عبد العزيز يقولون: ( يا أمير المؤمنين لقد دعونا النَّاس إلى مال الزَّكاة، دعوناهم إلى أنْ يأخذوا ما يريدون فلم نجد فقيرا )!! لم يبقَ فقير! فمنْ أين يأتي السَّارقون؟! المال أمامهم كثيرٌ ومن شاء أخذ بالحلال، فلماذا تمتد يده إلى الحرام؟
ثمَّ بعد ذلك، لو لم تكفي أموال الزَّكاة… لم يقل الإسلام لقد فعلنا ما علينا ولم يعد بأيدنا شيء… لا، لقد أوجب مالاً زائداً على مال الزَّكاة، فهناك: { حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * } وهو الزَّكاة لأنَّها حقٌ معلومٌ، وهناك: { حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * } وهو ما زاد على الزَّكاة لأنَّه حقٌّ غير معلوم، فهو نكرة دليلٌ على إطلاقه.
{ حَقٌّ } في هذا يقول عليه الصَّلاة والسَّلام: [ إنَّ في المال حقَّاً سوى الزَّكاة ] يفرضه ولي الأمر على المسلمين إذا لم تكفِ أموال الزَّكاة لسدِّ حاجة المجتمع، لسدِّ فقر الفقراء وعوز المحتاجين؛ فمن أين يحتاج الفقير إلى أنْ يسرق…؟!
لقد ربَّى الإسلام النُّفوس والضَّمائر فضلاً عن تجفيفه لمنابع الفقر، لقد جفَّف منابع الرَّذيلة داخل القلب؛ فما عاد الإنسان يفكِّر في الحرام لأنَّه يتذكر عقوبة الله تعالى، لأنَّه يعلم أنَّ مرتكب الذَّنب يعاقب في الآخرة… حتَّى ولو سقطت عنه عقوبة الدُّنيا لأنَّه هرب، لأنَّه تملَّص… فإنَّ هناك إلهً حكيماً عادلاً جبَّاراً قهاراً… يعلم السِّرَّ وأخفى سيعاقبه، فمن أين يسرق؟ من أين له يسرق والمصطفى يقول عليه الصَّلاة والسَّلام: [ لا يسرق السَّارق حين يسرق وهو مؤمن ]؟ فما الَّذي يدفعه لأنْ يسرق وهو المؤمن الَّذي يعلم أنَّ الله يراه وأنَّ الله سيحاسبه؟…
لقد عالج الإسلام مشكلة السَّرقة؛ بل وقى منها لم يعالجها فحسب… بأنْ جعل ولاة الأمر هم أصلح منْ في المجتمع، فإذا كان الإنسان العاديُّ يرى وليَّ الأمر لا يسرق فلنْ يسرق، وإذا كان يراه يأكل كسرة خبزٍ… فلنْ تسوِّل له نفسه أنْ يسرق ليأكل اللَّحم، وإذا كان المسلم يرى عمر بن الخطاب تقرقر بطنه فقول لها: ( قرقري ما شئت، فلنْ تأكلي اللَّحم حتَّى يأكله فقراء المسلمين )… فكيف يخطر لفقراء المسلمين أن يسرقوا؟ أمَا ترى إلى قول عليٍّ – رضي الله عنه – إذ أقرَّ هذه القاعدة المهمة…
يُأتَي إلى عمر بن الخطاب بكنوز كسرى، وتوضع بين يديه، ما بين ذهبٍ وفضَّةٍ، ما بين ماسٍ وياقوتٍ وزبرجدٍ… توضع كنوز واحدٍ مِنْ أعظم ملوك الأرض أمام عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فيقول: ( إنَّ قوماً أدَّوا إليَّ هذا لأمناء! ) لم يسرقوا! لم يغلِّوا! لم يختلسوا!…، فتأتيه القاعدة وتأتينا من عليٍّ رضي الله عنه، قاضِ المسلمين في عهد عمر ومستشار عمر، يقول رضوان الله عليه: ( يا أمير المؤمنين عففت فعفَّت الرَّعيَّة؛ ولو رتعت لرتعوا )…
مسلم يأتيه نصيبه من مال الزَّكاة إنْ كان محتاجاً، ويُزاد على الزَّكاة إنْ لم تسدَّ الزَّكاة حاجته؛ ثمَّ هو قد رُبِّيَ على مراقبة الله… [ الإحسان أنْ تعبد الله كأنَّك تراه، فإنْ لم تكن تره فإنَّه يراك ]، وعلم أنَّه: [ لا يسرق السَّارق حين يسرق وهو مؤمن ]، ورأى التَّربية الإسلاميَّة عامَّة في المجتمع المسلم، ورأى وليَّ الأمر لا يسرق ولا يتنعَّم بأموال المسلمين… فثمَّ تسوِّل له نفسه أنْ يسرق؟!! بعد أنْ رأى هذا كلَّه! سوَّلت له نفسه أن تسرق؟!! أفلا ترى معي أنَّه أهلٌ لأنْ تُقطَّع يداه ورجلاه ولأنْ يصلب؟… بلى إنَّه أهلٌ، ولكنَّ الإسلام كان رحيماً لطيفاً؛ فلم يفعل به ذلك إنَّما اكتفى به فقط بأنْ يقطع له يده، مع أنَّه لو فعل به أضعاف ذلك لكان حقاً له، لأنَّ أسباب السَّرقة قد انعدمت ولأنَّ أسباب العفَّة قد وُجِدَت ولأنَّ الَّذي يسرق في مثل هذا الجو المثاليِّ مادِّيَّاً ومعنويَّاً إنسانٌ أهلٌ لأنْ تُنزَل به أشدُّ أشكال العقوبات… من أجل ذلك قطع الإسلام يد السَّارق.
ثمَّة مسألةٌ هامَّةٌ لا يعلمها أعداؤنا، إذْ ربَّما يظنُّون أنَّ المجتمع المسلم الَّذي طبَّق الإسلام فيه ( في العهد الرّاشد وما بعده ) كانت الأيادي تقطَّع ليل نهار فيه، وأنَّه كان الإرهاب سائداً فيه! لا، لأنَّ تجفيف المنابع وسدَّ الرَّوافد أدَّى إلى أنْ يبتعد النّاس عن هذا كلَّ الابتعاد، حتَّى إنَّه لم تسجل على مدى أربع مئة سنةٍ – هي السّنوات الأُوَل في الحكم الإسلاميِّ – إلَّا ستُّ مرَّات قطعت فيها أيد السَّارقين!! على مدى أربع مئة سنة قطعت ستُّ أيدي…! وذلك أنَّ المجتمع قد طُهِّر من قلوب أفراده… لا الأيدي فقط طُهِّرت؛ بل إنَّ المجتمع من القلب والجوهر طُهِّر…
حتَّى إنَّ الَّذين كانت أيديهم تُقطَع كانوا يأتون إلى عقوبتهم بمحض اختيارهم، فقد روى الدَّارقطني بسندٍ مرسلٍ ( أي إنَّه ضعيفٌ بهذا ): [ أنَّ رجلاً سرق فجاء النَّبيَّ عليه الصَّلاة والسَّلام فطلب منه أنْ يقطع يده فقطع يده، ثمَّ سأل النَّبيَّ: يا رسول الله هل لي من توبة؟ قال عليه الصَّلاة والسَّلام: نعم، قال: يا رسول الله قد تبت إلى الله، قال عليه الصَّلاة والسَّلام: تاب الله عليك ]… لقد جاء إلى العقوبة بمحض اختياره، لم يرَ فيها وحشيَّةً تجعله يهرب منها، بل رأى فيها حكم الله، وهو يريد أنْ يُطبَّق عليه حكم الله حتَّى يغفر الله له؛ ثمَّ يقول: تبت إلى الله، فيقول له: تاب الله عليك…
وفي حديثٍ رواه ابن ماجة بسندٍ فيه ابن لهيعة، وابن لهيعة اختلط في آخره، فعدَّت الأحاديث الَّتي في إسنادها هو ( مع أنَّه موثوقٌ وصالحٌ ) عُدَّت أحاديث ضعيفة، في هذا الحديث: [ أنَّ رجلاً جاء المصطفى عليه الصَّلاة والسَّلام، وقال: يا رسول الله سرقت جملاً لبني فلان… فأرسل رسول الله إليهم يسألهم؛ فقالوا: نعم، لقد فقدنا جملاً، فأمر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم به فقطعت يده؛ فجعل الرَّجل ينظر إلى يده الَّتي قطعت ويقول: الحمد لله الَّذي طهَّرني منك… لقد أردت أن تدخلي جسدي إلى النَّار ]…!! لقد جاء بمحض اختياره، وأراد أن تُقطع يده…!
لقد كان يشجِّعهم على ذلك أنَّ هذا الحدَّ كان حدَّاً عامَّاً على كلِّ أحدٍ، فلم يكنْ ثمَّة شريفٌ وثمَّة دنيءٌ، لم يكنْ ثمَّة قويٌّ وآخر ضعيفٌ، لم تكنْ هناك طبقاتٌ يُقام الحدُّ على بعضها ويعطَّل عن بعضها، فإمَّا إعمالٌ مطلقٌ، وإمَّا تعطيلٌ مطلقٌ، هاهي ذي أمُّ المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – تروي لنا ذلك الخبر… الَّذي لو أعلمنا به علماء السِّياسة وعلماء التَّشريع في الأرض لوقفوا صاغرين أمام هذا الأُمِّيِّ الَّذي لم يقرأ ولم يكتب ولم يدرس أصول السِّياسة؛ ثمَّ صار ملكاً لا كالملوك، ولم يأخذه فساد الملك… لوقفوا صاغرين أمامه… تروي أمُّ المؤمنين عائشة كما يروي عنها البخاريُّ ومسلمٌ وكذلك الإمام مالكٌ، ويروي الحديث غيرهم عن عبد لله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، [أنَّ قريشاً أهمَّهم شأن المرأة المخزوميَّة الَّتي سرقت] وقد صحَّ في الأخبار أنَّ سرقتها كانت بأنْ [ تستعير المتاع ثمَّ تجحده ] تستعير الأغراض والحليَّ خصوصاً من الجيران… ثمَّ إذا طُلبت هذه الأمتعة منها تنكرها، تقول: لم آخذ شيئاً… فأمر رسول الله بأنْ تُقطع يدها… [ فقالوا: من يكلِّم فيها رسول الله علَّه يعفو عنها لأنَّها من الأشراف؟ فقيل: ومن يجترأ عليها إلَّا أسامة بن زيدٍ الحِبُّ بن الحِبُّ رضي الله عنه وعن أبيه؟ فكلَّم بها أسامة رسول الله عليه الصَّلاة والسَّلام… ] ويغضب عليه الصَّلاة والسَّلام غضبه المعهود… غضبه الَّذي لا يكون إلَّا لله… يتلُّون وجهه ويحمَّر… ويقول: [ أتشفع في حدٍّ من حدود الله يا أسامة…؟! ] ليس الحدُّ قسوة، إنَّما هو رحمة، فهل تطالب يا أسامة بأنْ تعطَّل الرَّحمة؟! بأنْ تمنع الرَّحمة عن العباد؟!… [ أتشفع في حدٍّ من حدود الله يا أسامة…؟! فلمَّا كان العشي قام عليه الصَّلاة والسَّلام فاختطب وأثنى على الله تعالى بما هو أهله، وقال: أمَّا بعد فإنِّما أهلك الَّذين من قبلكم أنَّهم كانوا إذا سرق فيهم الشَّريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضَّعيف أقاموا عليه الحدُّ؛ فوالَّذي نفسي بيده لو أنَّ فاطمة بنت محمَّدٍ سرقت لقطعت يدها ]…
عدل مطلق جعل ذاك العامِّيَّ يأتي إلى النَّبيِّ بنفسه ويقول: اقطع يدي وطهرني يا رسول الله…! وكيف لا يفعل ورسول الله يقول: [ لو أنَّ فاطمة بنت محمَّدٍ سرقت لقطعت يدها ]؟!
ليس حكماً جائراً؛ إذ الأب لا يجور على بنته، ليس حكماً قاسياً؛ إذ الشَّريف لا يجور على الأشراف، والمخزومية من الأشراف…
هو إذاً حكمٌ رحيمٌ رؤوفٌ لأنَّه طُبِّق على كلِّ أحدٍ، وكان يمكن أنْ يُطبَّق حتَّى على أشراف النَّاس من المؤمنين فيما لو فعلوا، وحاشى لفاطمة أنْ تفعل، فكيف لا يأتي هذا الرَّجل بنفسه ويقول: طهرني؟! ثمَّ يقول ليده: الحمد لله الَّذي طهَّرني منك، لقد كدتِ أنْ تدخلي جسدي إلى النَّار…؟!
يأمر رسول الله بقطع المخزوميَّة فيقول قومها: نفديها بخمس مئة دينار، فأمر بقطع يدها، قالوا: نفديها بخمس مئة دينار! فأمر بقطع يدها فقطعت… أمر بلالاً فأخذ بيدها فقطعها، رضوان الله عليها.
تقول أمُّ المؤمنين عائشة: [ ثمَّ حَسُنَت توبتها بعدُ، وتزوَّجت، وكانت تأتي بالحاجة فأرفعها إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ]… وهذا من أعظم الدَّقائق في مسألة الحدود أنَّ الَّذي يُقام عليه الحدُّ لا يصير بين المسلمين محتقراً، لا تعمُّه نظرة الازدراء، لا ينظر النَّاس إليه على أنَّه مذنب… لا، لقد طهَّره الله وتاب عليه، والمال الَّذي سرقه يردُّه…
بل قال الإمام أبو حنيفة: إنْ قطعت يده، وتلف المال في يده ( أي المال الَّذي أخذه أنفقه قبل أنْ تقطع يده ) فليس مطالباً بالعوض، ليس مطالباً بردِّ المال الَّذي تَلِفَ على أصحابه… لقد قُطِعَت يده فغفر الله له.
لقد قال عليه الصَّلاة والسَّلام لهذه المخزوميَّة بعد أنْ سألته: [ هل يغفر الله تعالى لي ذنبي؟ قال لها: أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمُّك ]، بعد أنْ قُطِعَت يدها قال لها: [ أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمُّك ]…
لقد طُهِّرت، وصار المجتمع يتعامل معها تعاملاً طبيعيَّاً، لأنَّها تابت من ذنبها، [والتَّائب من الذَّنب كمنْ لا ذنب له]…
قالوا: إنَّ قطع اليد عقوبة قوية! نقول: لأنَّ في ترك الأيادي تخفيف… انظروا إلى المجتمع وما أدَّى التّخفيف به إليه…!
لقد قال قضاةٌ كثيرون في أرجاءٍ كثيرةٍ من الأرض: إنَّهم يمرُّ عليهم المجرم مرَّاتٍ ومرَّاتٍ… يسرق فيحبس، ثمَّ يسرق فيحبس… ولا تقطع يده، ولربَّما وصلت جرائمه إلى مئة جريمة…! وهو بذلك راضٍ بالحبس، بالعقوبة المحدودة…! يقول لنفسه: ( أسرق مالاً كثيراً، ثمَّ أُحبَس فترةً قصيرةً؛ فأخرج وأتنعَّم بهذا المال )…! فيشجِّعه هذا على السَّرقة، يشجِّعه هذا على أكل المال الحرام…! فانَّ ذلك السَّارق في العصر العباسيِّ قال للإمام أحمد وهو ينصحه ( للإمام أحمد بن حنبل ): ( لقد سرقت فحُبِست وجُلِدتُ، ثمَّ أُطلِق سراحي، فسرقت فحُبِست وجُلِدت، ثمَّ أُطلِق سراحي؛ فعدت إلى السَّرقة مرَّةً أخرى… وها أنا ذا على حالي أسرق فأُعاقب؛ ثمَّ أسرق فأُعاقب… ولقد جُلِدت إلى الآن ثمانية عشر ألف سوط ولم أتب عن السَّرقة )…!! ثمانية عشر ألف سوط…!! لو مِنَ المرَّة الأولى قطعت يده لما عاد إليها…
لو أنَّ إنساناً مقطوع اليد (لسبب ما قطعت يده، في العمل في، إصابة حرب…) وهو يملك الملايين، وهو يملك ثروةً هائلةً… تقول له: هل أنت مستعدٌ لِأَنْ تدفع كلَّ ما عندك من المال لتعود لك يدك؟ ما تتوقَّع أنْ يجيب؟ بلى إنَّه مستعدٌّ… إنَّه مستعدٌّ لِأَنْ يدفع ماله كلَّه لتعود يده، العكس إذاً صحيح؛ بل هو أصحُّ أنْ يُؤثِر المرء يده الَّتي لمْ تقطع على المال الَّذي لا يملكه، إذا كان يُؤثِر يده المقطوعة على المال المكسوب، فإنَّه من باب أولى يُؤثِر اليد الَّتي لمَّا تقطع بعد على المال الَّذي لمَّا يُكسب بعد، فهو لا يرضى لنفسه أنْ يكسب مالاً كثيراً وتقطع بمقابله يده…
من أجل هذا كانت الأبواب لا تقفل، وكانت الأموال توضع هكذا عياناً… ولم يكن أحدٌ يمدُّ يده إليها، إنْ لم يكن التزاماً قلبيَّاً فعلى الأقلِّ خوفاً من العقاب… لأنَّ هناك أناساً كلُّ أشكال التَّربية لا تنفع معهم، فالتَّربية في الإسلام أساسيَّة؛ ولكنْ ما نقول في إنسانٍ صاحب طبيعةٍ شاذَّةٍ، وصاحب فطرةٍ منحرفةٍ… رغم كلَّ أسباب الحماية منْ الجريمة… أجرم! ورغم كلِّ أسباب الكفاية الاقتصاديَّة… سرق! هذا لا بدَّ له من العقوبة…
فهناك تربيةٌ وهناك عقوبةٌ، هناك وقايةٌ وهناك علاجٌ، من أجل هذا أقرَّ الإسلام الاثنين معاً، ولم يكن طوباويَّاً إلى درجةٍ يُنكِر فيها أهمِّيَّة العقوبة، ويقتصر على التَّربية فقط كما فعل أولئك الطُّوباويُّون ( المخربون في حقيقة الأمر )…
اعترض أناسٌ على هذه الوحشيَّة، وتكلَّم أبو العلاء المعرِّيِّ غفر الله له إذْ نعلمه مؤمناً غير أنَّه صاحب أفكارٍ منحرفةٍ، تكلَّم في ذلك… واعترض على أنَّ اليد إذا قُطِعت تُدفَع ديتها خمس مئة دينارٍ ذهباً، وإذا سرقت تُقطَع هذه اليد، مع أنَّ الَّذي سرقته إنَّما هو ربع دينار لا أكثر… تُودَى ( تدفع ديتها ) بخمس مئة دينار، وتُقطَع في ربع دينارٍ فقط فقال:
يدٌ بخمسِ مئينَ عسجدٍ وديَـتْ * ما بالها قُطِعَت في ربعِ دينـارِ
ثمَّ يجترء على حكم الله فيزعم أنَّ بين الحكمين تناقضاً فيقول:
تناقضٌ ما لنا إلَّا السُّكوت لـه * وأنْ نعوذ بمولانـا من النَّـار
هكذا قال المعرِّيُّ… يدٌ بخمسِ مئينَ عسجدٍ ( أي بخمس مئة دينارٍ ذهباً ):
يدٌ بخمسِ مئينَ عسجدٍ وديَـتْ * ما بالها قُطِعَت في ربعِ دينـارِ
تناقضٌ ما لنا إلَّا السُّكوت لـه * وأنْ نعوذ بمولانـا من النَّـار
وسمع الفقهاء في بغداد بما قال المعرِّيُّ ضيفهم في بغداد، فإذا بهم يبحثون عنه ليردُّون عليه فيهرب منهم، ويهيم على وجهه عائداً إلى المعرَّة.
يردُّ عليه القاضي عبد الوهَّاب المالكيُّ – رحمة الله عليه – فيقول: ( لأنَّها لمَّا كانت أمينة كانت ثمينة، ولمَّا خانت هانت )… لمَّا كانت أمينة كانت ثمينة وكانت أهلاً لِأَنْ تفدى بخمس مئة دينار ذهباً، ولمَّا خانت هانت لمَّا سرقت شيئاً قليلاً كانت أهلاً لِأَنْ تقطع.
ردَّ بعضهم شعراً عليه… على قوله:
يدٌ بخمسِ مئينَ عسجدٍ وديَـتْ * ما بالها قُطِعَت في ربعِ دينـارِ
فقال له:
عِزُّ الأمانةِ أغلاها، وأرخصَهـا * ذلُّ الخيانةِ فافهَمْ حكمةَ الباريْ
قاضٍ بريطانيّ يُعلن ( وهو الَّذي لم يتبنَّى الإسلام كدين ) يقول: ( لو كانت مسألة الدُّستور البريطانيِّ في يدي… لَمَا رأيت بديلاً عن قطع اليد للسَّارق، لأنَّها العقوبة الأمثل )…! وهذا ما تشهد به مجتمعاتنا الَّتي رأينا فيها الجريمة والسَّرقة قد عمَّت وكَثُرت، وهذا ما يُعلمنا بصراحةٍ أنَّ حكم الله تعالى حكم حكيم، وأنَّه ليس حكماً جائراً بقدر ما هو حكم عادل…
هذا حول حدُّ السَّرقة، وحدُّ السَّرقة القطع، فماذا حول حدِّ الرَّجم؟ وحدِّ الجلد؟ ماذا حول الزِّنى؟ والقذف؟ والقتل؟… وما إلى هنالك من شبهاتٍ تُطرح حول هذه الحدود؟ لنا بإذن الله تعالى وقفاتٌ أخر نفصِّل فيها القول…
ونسأل الله تعالى أنْ يكون ما قلنا مقنعاً لمقتنع، وأنْ يكون مجيباً لمتسائل، وأنْ يردَّ كلَّ الشُّبهات الَّتي يطرحها الباحث عن الحقيقة أو تُطرح له، وأمَّا ذاك المغرض المعاند؛ فإنَّا لا نملك إلَّا أنْ ندعو له بالهداية إذا أرادها…
نسأل الله تعالى أنْ يعرِّفنا الحقَّ فنتبعه، نسأله أن يردَّنا إلى دينه ردَّاً جميلاً، أقول هذا القول وأستغفر الله.
الحمد لله حمداً كثيراً كما أمر، وأشهد أنْ لا إله إلَّا الله وحده لا شريك، له إقراراً بوحدانيَّته وإرغاماً لمنْ جحد به وكفر، وأشهد أنَّ سيَّدنا محمَّداً عبده ورسوله الشَّفيع المُشفَّع في المحشر ما اتَّصلت عينٌ بنظرٍ ووعت أذنٌ بخبرٍ، أوصيكم عباد الله – ونفسي – بتقوى الله، وأحثُّكم – وإيَّاي – على طاعته، وأحذِّركم وبال عصيانه ومخالفةِ أمره، واعلموا أنَّه لا يضرُّ ولا ينفع ولا يصل ولا يقطع ولا يعطي ولا يمنع، ولا يفرِّق ولا يجمع إلَّا الله…

الملفات النصية
الملف الأول134 KB
أرسل هذه الصفحة إلى صديق
اسمك
بريدك الإلكتروني
بريد صديقك
رسالة مختصرة


المواضيع المختارة
مختارات

[حسن الظن بالله]

حسن الظن بالله يعني أن يعمل العبد عملاً صالحاً ثم يرجو قبوله من الله تعالى ، وأن يتوب العبد إلى الله تعالى من ذنب عمله ثم يرجو قبول الله تعالى لتوبته ، حسن الظن بالله هو ذاك الظن الجميل الذي يأتي بعد الفعل الجميل.
يقول النبي عليه الصلاة والسلام : {لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى.}
قال سبحانه في الحديث القدسي :{ أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني } أنا عند ظن عبدي بي فإذا ظننت أنه يرحمك وأخذت بأسباب الرحمة فسوف يرحمك ، وأما إن يئست من رحمته وقصرت في طلب أسبابها فإنه لن يعطيك هذه الرحمة لأنك حكمت على نفسك والله تعالى سيحكم عليك بما حكمت أنت على نفسك .