الفقه > مدخل إلى علم الفقه1
مدخل إلى علم الفقه1

الثُّلاثاء: 18 / المحرَّم / 1420 هـ ، 4 / 5 / 1999 م.

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمد لله ربِّ العلمين، وأفضل الصَّلاة وأتمُّ التَّسليم على سيِّدنا محمَّدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللَّهمَّ علِّمنا ما ينفعنا، وأنفعنا بما علَّمتنا، وزدنا علماً وعملاً وفقهاً في الدِّين، اللَّهمَّ طهِّر قلوبنا من النِّفاق، وأعمالنا الرِّياء، وألسنتنا من الكذب، وأعيننا من الخيانة، اللَّهمَّ تبرَّأنا إليك من حولنا وعلمنا وقوَّتنا، ولجأنا إلى حولك وعلمك وقوَّتك، فإنَّك أنت القويُّ ونحن الضُّعفاء، وإنَّك أنت القادر ونحن العاجزون، وإنَّك أنت العالم ونحن الجاهلون، وإنَّك أنت علَّام الغيوب، ربَّنا لا تَكِلنا إلى أنفسنا ولا إلى غيرك طرفة عينٍ ولا أقلَّ من ذلك، وأصلح لنا شأننا كلَّه في الدِّين والدُّنيا والآخرة، اللَّهمَّ أرنا الحقَّ حقَّاً وارزقنا اتباعه وحبِّبنا فيه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه وكرِّهنا فيه، اللَّهمَّ اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك، وصلَّ اللَّهمَّ على سيِّدنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وسلِّم.
لا نستطيع المفاضلة بين العلوم الشَّرعيَّة بشكلٍ دقيقٍ تامِّ الدِّقَّة، وذلك لأنَّ هذه العلوم ما كانت متمايزةً في العصر الأوَّل عصر النَّبيِّ صلوات الله وسلامه عليه، وعصر صحابته الكرام رضوان الله تعالى عليهم، وإنَّما كانت متمازجةً كلُّها ضمن سلوك الصَّحابة رضوان الله عليهم، وضمن علمهم، فلم يكن منهم الفقيه المتمايز عن القارئ، ولم يكن منهم عالم الفرائض المتمايز عن عالم الحديث، وهكذا فإنَّ العلوم ما كانت متمايزةً في زمانهم، لذلك بعد أنْ تمايزت هذه العلوم بعد عصر الصَّحابة رضوان الله عليهم في عصور التَّخصُّص بدأ المختصُّون في هذه العلوم كلٌّ يدعو إلى أفضليَّة علمه وتفوِّقه على العلوم الأخرى، فعالم التَّوحيد يقول: إنَّ علمي هو الأساس في معرفة الله جلَّ وعلا وفي صحَّة العقيدة وسلامتها؛ وبالتَّالي فإنَّ كلَّ العبادات الظَّاهرة مبنيَّةٌ على هذه العقيدة، والمختصُّ بتزكية الأنفُس والخُلُق يقول: إنَّ علمي واختصاصي هو الأساس لأنَّ الأساس في العبد صحَّة نفسه وسلامتها من العيوب والأدران، وعالم الفقه يقول: إنَّ علمي هو الأساس في معرفة صحِّة العبادة… وهكذا كلٌّ يدعوا إلى أفضليَّة علمه وتفوِّقه…
ولكنْ ممَّا لا يخفى أنَّ كلَّ علمٍ من هذه العلوم بحدِّ ذاته هو أسٌّ من الأسس الإسلاميَّة لا يمكن إهماله أو تجاهله، وإن كان لغيره من العلوم أفضليَّةٌ وفضلٌ فإنَّه أيضاً لا يُفقد العلوم الأخرى أفضليَّتها، فهي إذاً بمجموعها تمثِّل الإسلام فليس لنا أن نتناول جانباً وندع الجوانب الأخرى، وإنَّما ينبغي علينا أن ننظر إلى العلوم الإسلاميَّة نظرةً عموميَّةً شموليَّة، حتَّى لا نختلف، وحتَّى لا نتفرَّق كما حدث في أزمنةٍ غابرة، عندما صار أصحاب كلِّ اختصاص يختلفون مع أصحاب الاختصاصات الأخرى، وذلك لأنَّ كلَّاً يظنُّ نفسه هو الصَّواب وغيره الخطأ.
إذاً ممَّا لا يخفى أنَّ العلوم بأسرها ذوات مكانةٍ في بناء الإسلام…
ومن العلوم الَّتي لها مكانة متميِّزةٌ عن غيرها: علم الفقه.
وذلك لأنَّ علم الفقه يمثِّل الأسس والقواعد الَّتي بها نعرف صحَّة العبادة من بطلانها، ولا يخفى أنَّ العبادة إنْ لَمْ يُعلم دقَّة أحكامها فإنَّها قد تكون مردودةً في وجه صاحبها، لذلك فُضِّل دائماً العالم على العابد بدرجاتٍ ودرجات… كما قال عليه الصَّلاة والسَّلام: [فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب] وذلك أنَّ العالم يهدي غيره ويدلَّه، إضافةً لأنَّه يمشي على بصيرة.
وأمَّا العابد فإنَّه أولاً ليس ضامناً أنْ يكون مسيره على بصيرة، وإنَّه ثانياً أنْ مشى على صحَّةٍ ولكنَّه لا يصحِّح مسارات غيره، وكما قال أيضاً: [فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم] أي: كالفارق بين رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وبين أدنى رجلٍ من صحابته الكرام رضوان الله عليهم، وهو فارقٌ كبير.
علم الفقه هو الَّذي يصحِّح لنا عباداتنا، وهو المقصود في هذه الأحاديث في فضل العالم على العابد، لذلك رأينا الفقهاء رضوان الله عليهم قد امتدحوا في علم الفقه ذلك، وجعلوا لنا علم الفقه هو أسَّ العلوم، إضافةً لعلم القرآن والحديث، حتَّى قال الإمام الشَّافعيُّ رضوان الله عليه:
كُلُّ العُلُومِ سِوَى الْقُرْآنِ مَشْغَلَةٌ * إِلَّا الحدِيثَ وَعِلْمَ الفِقْهِ فِي الدِّينِ
العِلْمُ مَا كَانَ فِيهِ قَالَ حَدَّثَنَـا * وَمَا سِوَى ذَاكَ وِسْوَاسُ الشَّيَاطِينِ
أي: ليس العلم إلَّا قرآناً وحديثاً وفقهاً، طبعاً هذا يعني أشرف العلوم، ولكنْ ليس هذا نفياً للعلوم الأخرى.
كُلُّ العُلُومِ سِوَى الْقُرْآنِ مَشْغَلَةٌ * إِلَّا الحدِيثَ وَعِلْمَ الفِقْهِ فِي الدِّينِ
(العِلْمُ مَا كَانَ فِيهِ قَالَ حَدَّثَنَـا) أي: ما كان في إسناد، والإسناد ما مُيِّزت به أمَّتنا الإسلاميَّة (* وَمَا سِوَى ذَاكَ وِسْوَاسُ الشَّيَاطِينِ).
علم الفقه الإسلاميِّ ظهرت بداياته مع بدايات التَّشريع، والتَّشريع الإسلاميُّ ابتدأ من بعد هجرة النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بشكلٍ ظاهرٍ وكانت له بداياتٌ متناثرةٌ قبل الهجرة النَّبويَّة الشَّريفة، وذلك أنَّ المرحلة المكِّيَّة كانت مرحلة تثبيتٍ للعقيدة وغرسٍ لأصول الفضائل الأخلاقيَّة الإسلاميَّة، وما كان فيها تشريعٌ للعبادات ولا تنظيمٌ للمعاملات، وإنَّما كان ذلك موثَّقاً في فترة الدَّعوة المدنيَّة؛ إلَّا عبادة الصَّلاة فإنَّها العبادة الوحيدة الَّتي فُرضت قبل الهجرة إلى المدينة المنوَّرة في ليلة الإسراء والمعراج قبل الهجرة بسنة، ما عداها كلُّ العبادات فُرضت بعد الهجرة.
فالصَّوم فُرض في السَّنة الثَّانية للهجرة، والزَّكاة اختلف ما بين السَّنة الثَّانية والسَّنة السَّادسة للهجرة، وزكاة الفطر فُرضت في السَّنة الثَّانية للهجرة، وهكذا باقي عبادات الإسلام تأخَّرت عن الهجرة النَّبويَّة الشَّريفة، وذلك لخصوصيَّة مراحل الدَّعوة الإسلاميَّة.
ففي مكَّة ما كان الجوُّ مهيَّئاً لكي يعبد المسلمون ربَّاً لم يطمئنُّوا بعد بأنَّهم سوف يستمرُّون على ديانتهم في توحيده، ليس من المنطق أنْ يبتدئوا بالعبادات والتَّشريعات ولمَّا تنغرس في قلوبهم أصول العقيدة الإسلاميَّة، ولمَّا تترسَّخ فيهم مقوِّمات الثَّبات على شرع الله سبحانه، لذلك فقد كانوا في مكَّة يُهيَّئون للتَّشريع، وفي المدينة بدأ التَّشريع يُعمَّم عليهم: حُرِّم الخمر، نُظِّم الزَّواج، نُظِّمت معاملات البُيوع… وهكذا كلُّ هذه المعاملات والعبادات ما كانت إلَّا في المدينة المنوَّرة.
وتميَّز من الصَّحابة رضوان الله عليهم فقهاء، ولكنْ كما قلنا: ما كان الفقه اختصاصاً قائماً بذاته، وإنَّما كان ممتزجاً تارةً بالتَّفسير وتارةً بالحديث، ما كانوا مختصِّين، بل حتَّى في مرحلة الاختصاص عندما تمايزت العلوم لم يتمايز الأشخاص.
برغم الاختصاص… تمايزت العلوم ولم يتمايز الأشخاص… كيف ذلك؟ قال: صار في شيء اسمه علم الفقه وصار في شيء اسمه علم الحديث، وصار في شيء اسمه علم النَّحو وهكذا… ولكنَّ الأشخاص ما اختصُّوا باختصاصٍ وتركوا غيره، وإنَّما كنت ترى العالم المسلم: فقيهاً نحْويَّاً محدِّثاً عالماً في التَّوحيد عالماً في الفرائض عالماً بأشعار العرب عالماً بالسِّيرة عالماً بقصص الصَّحابة رضوان الله عليهم… لقد كانوا موسوعاتٍ متنقِّلةً لا يشقُّ لهم غبارٌ في علمٍ من العلوم؛ وهكذا ينبغي أن يكون العالم المسلم، بخلاف ما نرى الحال اليوم…
إذاً ابتدأ الفقه الإسلاميُّ على أيد الصَّحابة رضوان الله عليهم، الفقه موجودٌ في الكتاب وفي السُّنَّة (وهذه هي أصوله)، ولكن يحتاج إلى من يستنبطه، وكانت هذه مهمَّة الصَّحابة رضوان الله عليهم، فرسول الله ناقلٌ للتَّشريع، أو مشرِّعٌ على سبيل المجاز؛ فهو ليس مشرِّعٌ على سبيل الحقيقة، لأنَّ الله هو وحده المشرِّع، ولكن مشرِّعٌ على سبيل المجاز بمعنى أنَّ أفعاله وأقواله تشريعات، وأن لم تكن نابعةً منه وإنَّما هي نابعةٌ من إجراء الله جلَّ وعلا لها على سلوكيَّاته صلوات الله وسلامه عليه، فرسول الله إذْ يفعل وإذْ يقول لا يأتي بشيءٍ من قبل نفسه وإنَّما الله هو الَّذي يُفعله ويُقوِّله، فهو مشرِّعٌ مجازاً، وناقلٌ للتَّشريع على سبيل الحقيقة.
فنبغ من الصَّحابة رضوان الله عليهم جماعةٌ تميَّزوا بالفقه، وعلى رأسهم الخلفاء الرَّاشدون الأربعة الَّذين لا نرى علماً من العلوم ونبحث عن المتفوِّقين فيه إلَّا رأينا هؤلاء الأربعة في مُقدَّمتهم، ولا بدَّ أن يتحقَّق ذلك لهم، وكيف لا يتحقَّق ذلك؟ وهم الَّذين سوف يمثِّلون الإسلام في تعليم المسلمين إيَّاه، وهم الَّذين سوف يمثِّلون الإسلام في دعوة غير المسلمين إليه… لذلك كان لا بدَّ من أن يكون هؤلاء الخلفاء الأربعة رضوان الله عليهم الأوائل في علم التَّفسير والأوائل في علم الفقه، والأوائل في علم الحديث، والأوائل في علم التَّوحيد… وهكذا كانوا أوائل في كلِّ علمٍ من العلوم على الإطلاق فضلاً عن أنَّهم كانوا الأوائل في الإيمان والتَّقوى رضوان الله تعالى عليهم، حتَّى كان أبو بكرٍ الخليفة الأوَّل أعظم الصَّحابة إيماناً بل أعظم المسلمين على الإطلاق إيماناً حتَّى قال فيه عليه الصَّلاة والسَّلام: [لو وُزنَ إيمان الأمَّة بإيمان أبي بكرٍ لرجح إيمان أبي بكر] لأنَّ أبا بكرٍ سوف يأخذ لواء الإسلام من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ليتابع المسرة الَّتي ابتدأها صلوات الله وسلامه عليه.
نبغ من الفقهاء – غير الخلفاء الأربعة – العبادلة الأربعة، والعبادلة الأربعة مصطلح يطلق تارةً على عبادلةٍ في الحديث، وتارةً على عبادلةٍ في الفقه، وهؤلاء العبادلة يُشترك منهم ثلاثة ويختلف واحدٌ ما بين الفقهاء والمحدِّثين فيصير المجموع خمسة، وهم:
عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وعبد الله بن عبَّاسٍ رضي الله عنهما، وعبد الله بن الزُّبير رضي الله عنهما، وعبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه، وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما، فهؤلاء هم العبادلة الَّذين بزُّوا أقرانهم من صحابة رسول الله رضوان الله عليهم في فقههم وفي علمهم بحديث رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
وعلى رأسهم عبد الله بن عبَّاس، على رأس هؤلاء من بعد الخلفاء الأربعة، وذلك أنَّ رسول الله دعا له بأنْ يفقِّهه الله جلَّ وعلا في الدِّين، فقال: [اللَّهمَّ فقِّهه في الدِّين وعلِّمه التَّأويل]، ودعاء رسول الله مجاب؛ لذلك كان عبد الله بن عبَّاسٍ فقيهاً.
وكلمة الفقه في ذلك الوقت قلنا قبل عصر الاختصاص ما كان يراد بها العبادات والمعاملات بشكلٍ خاصٍّ، الفقه في عصر الاختصاص صار يأخذ جانباً من جوانب الإسلام ألا وهو الإسلام… «قال: إيش هال الحكي هدا؟!» يأخذ جانب من جوانب الإسلام ألا وهو الإسلام!! قال: نعم، نقصد يأخذ جانباً من جوانب الإسلام الدِّين العامِّ الشَّامل ألا وهو الإسلام المقصود في قول النَّبيِّ: [الإسلام أن تشهد أنْ لا إله إلَّا الله وأنَّ محمَّداً رسول الله، وتقيم الصَّلاة، وتؤتي الزَّكاة، وتصوم رمضان، وتحجَّ البيت إن استطعت إليه سبيلاً].
فالدِّين هنا مقسَّمٌ إلى ثلاثة مقاصد: مقصِدٍ اعتقاديٍّ، ومقصِدٍ تطبيقيٍّ، ومقصِدٍ أخلاقيٍّ روحانيٍّ.
فالمقصد الاعتقاديِّ: ويسمَّى عند أهل المصطلح بالعقيدة، عبَّر عنه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بالإيمان.
والمقصد التَّطبيقيِّ: الَّذي يسمَّى عند علماء المصطلح بالشَّريعة، وهو المقصود بالفقه، سمَّاه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الإسلام.
والمقصد الأخلاقيُّ الرُّوحانيُّ: الَّذي يُراد به التَّزكية، أسماه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بالإحسان.
هذه المقاصد الثَّلاثة الَّتي لخَّصها رسول الله في حديث جبريل الَّذي رواه الإمام مسلم الإيمان والإسلام والإحسان.
فكلمة علم الفقه في العصور المتأخِّرة صار يُراد بها جانب الإسلام على وجه الخصوص، الَّذي يُعبِّر عن أمرين عباداتٍ ومعاملاتٍ.
عبادات متمثِّلة بالعبادات الأربعة: الصَّلاة والزَّكاة والصَّوم والحجُّ وما ألحق بها، والمعاملات ممثَّلةً بالبيوع وبالنِّكاح والطَّلاق وغير ذلك ممَّا يلزم المسلمين في حياتهم الاجتماعيَّة.
وأمَّا في العصر الأوَّل فلقد كانت كلمة الفقه عامَّةً تدلُّ على كلِّ علمٍ نافعٍ يُطلب من المسلم أن يتعلَّمه وأن يبحث عنه، حتَّى قال عليه الصَّلاة والسَّلام في الحديث الَّذي رواه لنا معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما: قال يروي عن رسول الله أنَّه قال: [من يُرد الله به خيراً يفقِّهه في الدِّين] كما صحَّ في الحديث، وفي رواية للطَّبرانيُّ زاد: [من يُرد الله به خيراً يفقِّهه في الدِّين ويُلهمه رشده]، فالفقه هنا عامٌّ للعلم الإسلاميِّ عموماً باختلاف مقاصده، وهذا ما أراد عليه الصَّلاة والسَّلام في دعائه لعبد الله بن عبَّاسٍ: [اللَّهمَّ فقِّهه في الدِّين وعلِّمه التَّأويل] فكان فقيهاً وأخذ العلم عن رسول الله، ثمَّ عن صحابة رسول الله، وعلى رأس أساتذته من بعد رسول الله: عليُّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه وكرَّم وجهه.
بلغ عبد الله بن عبَّاسٍ من علمه أنَّ سيِّدنا عمر بن الخطَّاب في فترة خلافته كان يقرِّبه ويُدنيه من دون الصَّحابة رضوان الله عليهم جُلَّتهم وكبارهم، وذلك لمعرفته بتفوِّقه في علم الفقه وفي علم التَّفسير على حدٍّ سواء، حتَّى عاتبه بعضهم يوماً… فقال لهم: سوف أريكم ما سرُّ تفوُّق عبد الله بن عبَّاس، فسألهم مرَّةً عن قوله تعالى: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} عن سورة النَّصر، ما سبب نزولها؟ وما تعني؟ فقال جمهورهم: هذه منَّةٌ امتنَّ الله بها على نبيِّه تعبِّر عن نصر الله والفتح، يعني وصفوا الماء بالماء… {إِذَا جَاء نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً *} ، قالوا: الله يأمر نبيَّه إذا جاء نصر الله والفتح أن يسبِّح لله وأن يستغفره، قال: يا بن عبَّاسٍ ماذا تعرف من هذه السُّورة؟ قال: يا أمير المؤمنين هي علامةٌ وضعها الله جلَّ وعلا لنبيِّه تدلُّ على اقتراب أجله، فضرب عمر بصدر عبد الله بن عبَّاس وقال: والله لا أعرف منها إلا ما قلت، يعني هذا هو السَّبب الحقيقيُّ لنزول السُّورة…إشعار رسول الله عليه الصَّلاة والسَّلام باقتراب أجله، لذلك صار رسول الله يُكثر من الاستغفار بقوله: [سبحان الله وبحمده، استغفر الله وأتوب إليه] كأنَّه يتأوَّل هذه السُّورة في أواخر حياته، وقال للسَّيدة فاطمة البتول الزَّهراء رضوان الله عليها: [إنَّ الله قد جعل لي علامةً، وإنَّها قد ظهرت، ولا أرى أجلي إلَّا قد اقترب] وهذه العلامة هي هذه السُّورة.
إذاً نبغوا رضوان الله عليهم… ونبغ منهم مختصُّون في بعض اختصاصات علم الفقه أمثال زيد بن ثابتٍ رضي الله تعالى عنه الَّذي كان متفوِّقاً بعلم الفرائض، حتَّى قال عليه الصَّلاة والسَّلام: [أفرض أمَّتي زيد] أعلم أمَّتي بتقسيم الميراث وتوزيعه على مستحقِّيه زيد بن ثابتٍ رضوان الله تعالى عليه.
ظلَّ علم الفقه على هذه الحال لا يتميَّز عن غيره من العلوم، وإنَّما إفتاءٌ يصدره عبد الله بن عبَّاس من ضمن تفسيره لآية من آيات كتاب الله، أو حكمٌ فقهيٌّ يرويه أحد الصَّحابة من ضمن روايته لحديثٍ من أحاديث رسول الله… أحكامٌ متناثرةٌ متفرِّقةٌ…
حتَّى قيَّض الله جلَّ وعلا لها من يجمعها في علمٍ قائمٍ بذاته يكون له أصولٌ وقواعدٌ وطرقٌ للاستنباط… تظلُّ هذه الطُّرق قائمةً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وكلُّ ذلك في صحيفة أعمال ذاك الجهبذ الحَبْر، ذاك العالم العلَّامة الَّذي كان على يده إخراج علم الفقه إلى النُّور على أنَّه اختصاصٌ متميِّزٌ عن غيره من العلوم الإسلاميَّة…
ألا وهو الإمام الأعظم أبو حنيفة النُّعمان بن ثابت رحمه الله تعالى ورضي عنه وأرضاه فهو الَّذي قعَّد قواعد علم الفقه، حتَّى قال الإمام الشَّافعيُّ: (النَّاس عيالٌ في الفقه على أبي حنيفة)… أي إنَّهم مهما بلغوا فإنَّهم في فقههم لا يخرجون عن أنَّ أبي حنيفة هو الَّذي جعل لهم الفقه علماً، الفقه كان موجوداً ولكن ما كان في التَّمام والكمال الَّذي كان عند الإمام أبي حنيفة.
والإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى هو أوَّل الأئمَّة الأربعة عند أهل السُّنَّة والجماعة، وإنْ كنَّا نعترف بإمامٍ خامسٍ هو أستاذ الإمام أبي حنيفة وهو إمام الشِّيعة الجعفريَّة بل إمام كلِّ مسلمٍ يحبُّ رسول الله ويحبُّ آل بيت رسول الله ألا وهو الإمام جعفر الصَّادق عليه السَّلام.
نحتاج إلى فهم الحال الَّتي كانت في ذلك الزَّمان، وإلى فهم قواعد استنباط كلِّ إمامٍ من الأئمَّة حتَّى نعرف كيف يمكن أن نأخذ علم الفقه الإسلاميِّ، وبخاصَّةٍ في زمانٍ صرنا فيه – معشر المسلمين – منقسمين لطائفتين غاليتين مبالغتين، وكلتاهما مخطئةٌ في أخذها لعلم الفقه.
فطائفةٌ متعصِّبةٌ لمذهبٍ قائمٍ بذاته منكرةٌ لكلِّ مذهبٍ آخر! وهذا التَّعصُّب المذهبيُّ لا يرضاه الأئمَّة رضوان الله عليهم…
وطائفةٌ منكرةٌ لكلِّ شيءٍ اسمه مذهب! وآخذون بالَّا مذهبيَّة! ومنكرون للجهود العظيمة الَّتي قام به الأئمَّة المجتهدون رضوان الله عليهم…!
وكلا القولين باطل كما سوف نسهب في ذلك إن شاء الله.
أئمَّتنا الأربعة: الإمام أبو حنيفة النُّعمان بن ثابت، ثمَّ الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة، ثمَّ الإمام محمَّدٌ بن إدريسٍ الشَّافعيُّ، ثمَّ الإمام أحمد بن حنبل الشَّيبانيُّ رحمهم الله تعالى.
وأمَّا الإمام الخامس وهو الخامس في التَّرتيب، ولكنَّه الأوَّل من النَّاحية الزَّمنيَّة هو الإمام جعفر الصَّادق، وصرنا نعترف عليه – معشر السُّنَّة – ونعترف بمذهبه بناءً على فتوى صدرت من الجامع الأزهر في عهد الشَّيخ محمود شلتوت، عندما كان شيخاً للأزهر أصدر فتوى يُقرُّ فيها الشِّيعة الزَّيديَّة والشِّيعة الجعفريَّة، (والشِّيعة الزَّيديَّة هم أتباع زيد بن عليِّ زين العابدين بن الحسين بن عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه، والشِّيعة الجعفريَّة هم أتباع جعفر الصَّادق بن محمَّدٍ الباقر بن زين العابدين عليّ بن الحسين بن عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه وكرَّم وجهه) ويعتبر المذهب الجعفريَّ أو المذهب الإماميَّ أو المذهب الاثني عشريِّ وهذه كلُّها أسماءٌ لمسمَّىً واحد، يعتبره مذهباً إسلاميَّاً خامساً، طبعاً مع علمنا بوجود أخطاءٍ فيه وبعضها كبير وبعضها صغير؛ ولكنَّنا نعترف بأنَّه مذهب فيه أخطاء؛ ولكن لا نعتبر أتباعه كفرةً ولا نعتبرهم مارقين من الملَّة خارجين عن الإسلام، وإنَّما هم مسلمون موحِّدون إذا لم يصدر لنا منهم شيءٌ يكفِّرهم فكيف نكفِّرهم؟! وإمامنا إمام أهل السُّنَّة والجماعة أبو الحسن الأشعريِّ واضع أسس علم التَّوحيد علم العقيدة يقول: (لا أكفِّر أحداً من أهل القبلة ما داموا يشيرون إلى معبودٍ واحد ويتَّجهون إلى قبلةٍ واحدة) كما حدَّد أصول ذلك في كتابه: (مقالات الإسلاميِّين وعقائد الموحِّدين) إذاً لا أكفِّر أحداً من أهل القبلة بذنبٍ ما داموا يُشيرون إلى معبودٍ واحدٍ ويتَّجهون إلى قبلةٍ واحدة… فمسألة التَّكفير مسألةٌ دخيلةٌ على المجتمع المسلم ما كانت ظاهرةً في الزَّمان الأوَّل في زمن السَّلف الصَّالح رضوان الله عليهم، وإنَّما هي متطفِّلةٌ أدخلها بعضهم إنْ على سبيل الاجتهاد أو على سبيل الكيد للإسلام وكلا الحالين موجود، إمَّا أنَّه اجتهد فأخطأ وإمَّا أنَّه أراد أنْ يكيد الإسلام فصار ينشر هذه المقولات (مقولات التَّكفير، ومقولات الإخراج من الملَّة، ومقولات: فلان مشرك شركاً أكبر، وفلان مرق من الإسلام بذنبٍ صغيرٍ فعله أو بذنبٍ كبيرٍ) وحتَّى الذُّنوب الكبائر لا تكفِّر ولا تُخرج من الملَّة.
فسلفنا الصَّالح ظهر في أزمنتهم المعتزلة، ظهر الجبريَّة، ظهر المرجئة، ظهر القدريَّة… ظهرت طوائف وطوائف… وربَّما قُتل الكثيرون من أتباع هذه الطَّوائف من باب درء فتنتهم، ولكنْ ما سمعنا أحداً من الأئمَّة الأعلام رضوان الله عليهم كفَّر واحداً من أتباع هذه الطَّوائف، ما سمعنا واحداً قال: (المعتزلة كفرة)… مع أنَّ أقوالهم تبلغ بهم حدَّ الكفر! إذا يُنكرون معجزات النَّبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام! على سبيل المثال، ويُأوِّلونها! قد تبلغ بهم منزلة الكفر… إذ يقولون بخلق القرآن! وهم يجتهدون في ذلك، إذ يقولون إنَّ الجنَّة والنَّار لم تخلقا بعد! ويجتهدون في فهم نصوص القرآن في ذلك، إذ يقولون بوجوب الأصلح على الله جلَّ وعلا!! وغير ذلك من المقولات الكثيرة الَّتي قال بها المعتزلة… ولربَّما حوكم المعتزلة ولربَّما قتل بضهم… ولكن ما سمعنا أحداً من العلماء قال: إنَّ المعتزلة كفرة رغم الأمور الكبيرة الَّتي يمكن أن تكفِّرهم… ما كفَّرهم أحد.
فكيف نكفِّر أحداً ممَّن يقول لا إله إلَّا الله محمَّدٌ رسول الله؟!! ويعترف بكلِّ ما نعترف به، ولكنْ له معاصٍ أو له اجتهادات خاطئة؟!… إذاً مسألة التَّكفير دخيلةٌ على المجتمع المسلم ودخيلةٌ على الفكر الإسلاميِّ النَّقي الصَّافي والإسلام منها بريء، لأنَّ: [من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بهما أحدهما إن كان كما قال، وإلَّا رجعت إليه] لذلك وجب الحذر من ذلك.
الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى الَّذي (ولد في عام الثَّمانين للهجرة وتوفِّي في عام المئة والخمسين للهجرة) فعلاً ندين له ويدين له كلُّ مسلمٍ بفضل وضع أسس علم الفقه، وإن كانت الأسس الَّتي وضعها ما كلُّ الفقهاء اعترف بها وأخذ بها.
الإمام أبو حنيفة درس سنتين عند الإمام جعفر الصَّادق، وقال فيهما عرفاناً بفضله: (لولا السَّنتان لهلك النُّعمان) وكذلك حال كلِّ إنسانٍ مخلصٍ معترفٍ بالجميل يعترف بفضل من علمه وإنْ معلومةً واحدةً.
الإمام أبو حنيفة ذاته هو الَّذي يعترف بفضل حجَّامٍ علَّمه… حجَّام! والحجَّام هو من يحتلُّ وظيفتين وظيفة الحلاقة (يشتغل حلَّاقاً) إضافةً إلى أنَّه يحجم أي يأخذ من الجسم وخاصَّةً من الرَّأس شيئاً من الدَّم تطبيقاً لسنَّة النَّبيِّ صلَّى الله وسلَّم، قال: (تعلَّمت من حجَّمٍ مسائل ما كنت أعرفها) وذلك في الحجِّ (قال: جئت لكي يحلق لي الحلَّاق هذا الحجَّام يحلق لي رأسي بعد أن تحلَّلت من الإحرام، فجلست فقال لي: توجَّه إلى القبلة… قال: فتوجَّهت إلى القبلة! وقد ذهلت! حجَّامٌ يعلِّمني ما أفعل!! توجَّهت إلى القبلة، ثمَّ قلت له: احلق لي رأسي فقال لي: أحلق لك الطَّرف الأيمن أولاً… قال: فعلَّمني مسألةً ثانيةً ما كنت أعرفها! فبدأ يحلق لي رأسي فقال لي: كبِّر… فصرت أكبِّر! فلمَّا انتهيت قلت له: أسألك بالله عليك من أين تعلَّمت هذه المسائل وعلَّمتني إيَّاها؟ قال: حلقت رأس فلان من الفقهاء ففعل مثلما علَّمتك، فتعلَّمت هذه المسائل منه، فعلَّمتك إيَّاها…) واعترف أبو حنيفة بفضل الحجَّام وضار يذكرها، وما ترفَّع عن ذكر ذلك بين النَّاس ويقول لهم: (تعلَّمت ثلاث مسائلٍ من حجَّام…!) ما تكبَّر عن ذلك!
قال: لولا السَّنتان لهلك النُّعمان، في السَّنتين الَّتي تعلَّم فيهما عند جعفر الصَّادق.
ولكنَّ شيخه وعمدته الذَّي أخذ عنه العلم كان حمَّاداً بن أبي سليمان، وهو الَّذي صحبه أبو حنيفة وأخذ عنه جلَّ العلم، وخاصَّةً علم الفقه، وكان وقت اختصاص في ذلك الوقت، ولكن قلنا اختصاص لم توضع له قواعد وضوابط مثل ما وضع لها الإمام أبو حنيفة.
فكيف بلغ أبو حنيفة من العرفان بجميل حمَّاد؟ يقول الإمام أبو حنيفة النُّعمان رحمه الله تعالى: (إنِّي لأدعو الله تعالى فأذكر في دعائي حمَّاداً قبل أنْ أذكر والديَّ)… عرف ذلك من بعده، فها هو تلميذ الإمام أبي حنيفة أبو يوسف القاضي الَّذي عرف فضل العلم وقيمته قال: (توفِّي لي مرَّةً ولد؛ فأوكلت من يدفنه عوضاً عنِّي لئلَّا أفوِّت مجلس أبي حنيفة…)!! «هي حكاية بدها واحد يعيدها مرَّة تانية منشان نسمعها…لأنه ماي مفهومة! إيش هال القصَّة؟! ما عم نفهما، عجب إيش عب يقول الإمام أبو يوسف؟!» لنسمع ما يقول: (قال: توفِّي لي مرَّةً ولد؛ فأوكلت من يدفنه عوضاً عنِّي لئلَّا أفوِّت مجلس أبي حنيفة…)!! الله أكبر!! وهل في النَّاس مثل ذلك؟!! هل في النَّاس من يفوِّت دفن ولده لئلا يفوِّت مجلس علم؟!! قال: نعم، في النَّاس مثل ذلك… من هو؟ قال: هو العاقل… العاقل من يفعل ذلك، وأمَّا من غابت عنده الرُّؤيا ولم تتَّضح عنده الأهداف ولم يعرف ماذا يريد…فإنَّه يبيع الآخرة كلَّها بعرضٍ من الدُّنيا زائل…! «الآخرة كلها ببيعها! مو درس فقه!» يفوُّت صلوات أيَّامٍ وليالي لا يصلي «وبيقول: إي والله شغلة بتزعِّل، كنت متعلِّق فيها القطَّة! ماتت! ما عب صيرلي همَّة أصلي…ما عب اشتهي أقوم أصلِّي… إي قال: أما أبو يوسف مات ابنه وما روَّح الدَّرس!! إي» أين هذا الصِّدق في طلب العلم؟! وأين هذا الإخلاص في البحث عن العلم؟!
وكان كذلك من بعدهم… الإمام الشَّافعي على سبيل المثال (لا حظ تقديرهم لمن يعلِّمهم) الإمام الشَّافعيُّ تلميذٌ للإمام أبي حنيفة… ولكنَّه تلميذٌ بالواسطة لأنَّه ما رأى أبا حنيفة، ففي العام الَّذي توفِّي فيه أبو حنيفة عام مئة وخمسين للهجرة ولد الإمام الشَّافعيُّ وعاش أربعةً وخمسين عاماً توفي عام مئتين وأربعةٍ للهجرة، ولكنَّه أخذ علم أبي حنيفة عن تلامذة أبي حنيفة، عن أبي يوسف وعن محمَّدٍ بن الحسن، وعن زُفر ويعقوب…قال: زار مرَّةً الإمام الشَّافعيُّ قبر الإمام أبي حنيفة النُّعمان رحمه الله تعالى في بغداد (وقبره معروفٌ حتَّى الآن، في منطقةٍ تسمَّى الأعظميَّة نسبةً للإمام الأعظم أبي حنيفة) قال: فصلَّى صلاة الفجر قرب قبره، والإمام الشَّافعيُّ يقول هناك قنوتٌ في الفجر، والإمام أبو حنيفة يقول لا قنوت في الفجر، القنوت مشروعٌ عند الإمام الشَّافعي غير مشروعٍ عند الإمام أبي حنيفة، قال: فصلَّى الإمام الشَّافعيُّ صلاة الفجر ولم يقنت فيها، فلمَّا انتهى من صلاته قالوا له: يا إمام أَمَا قلت بمشروعيَّة القنوت في صلاة الفجر؟ فقال: ويحكم! أصلِّي عند قبره وأخالفه…؟!! هذا أستاذي وشيخي… كيف أخالفه وأنا قربه؟! ليس من الأدب وليس من العرفان بالجميل أن أفعل شيئاً لم يقله رحمه الله تعالى، هكذا كانوا رضوان الله عليهم.
وممَّن درس عندهم الإمام الشَّافعيُّ أيضاً الإمام مالك بن أنس، قرأ عليه كتاب الموطَّأ، وكان الإمام الشَّافعيُّ ما بين أربعة عشر وستَّة عشر عاماً، ترك بلده مكَّة وهاجر إلى المدينة ليقرأ الموطَّأ على الإمام مالك، ثمَّ بعد ذلك فتح الله عليه من فتوحه وصار في علمه لربَّما يباري بل يسبق الإمام مالكاً…
وظهر ذلك في حادثةٍ لطيفةٍ جدَّاً، ظهر أنَّ الإمام الشَّافعيَّ لربَّما سبق الإمام مالكاً أستاذه، ولكنَّ هذا لم يمنعه من أن يستمِّر على أدبه معه… قال: أتى مستفتٍ إلى الإمام مالك قال: يا إمام حلفت على زوجتي فقلت عندما كنت أبيع بُلبُلاً في السُّوق، فقلت: زوجتي طالقٌ إذا سكت عن التَّغريد «عب بيع بُلبل بدُّو يرغِّب ببضاعته قام قال له اللِّي بدُّو يشتري: طيِّب بيغرِّد كتير؟ قال له: عليَّ الطَّلاق ما بيسكت…! قال له»: زوجتي طالقٌ إن سكت «ما بيسكت، إيه؟ معقول بُلبل ما بيسكت؟! أجا لعند الإمام مالك، قال له: يا إمام هيك هيك حلفت إيش أساوي؟ قال له الإمام مالك: سكت؟ قال له: طبعاً بدُّو يسكت، يعني معقولة ما يسكت؟! قال له»: زوجتك طلقت «خلص إنت قلت»: زوجتي طالق إن سكت، مادام سكت زوجتك طلقت… «أخذ حسبه الله هذا الزَّلمه ومشي… إي هيك كانوا… مو متل هلَّأ مستفتين زمانَّا، مستفتين زمانَّا بيجي إي بدُّو ينحر الشِّيخ من هون ينكشه من هون… إي بدُّو يتم يسأله مية مرَّة حتَّى آخر الشي يقول له: حلال!! بيقول له يا أخي حرام هيك قال الله… بيقول له: شيخي دبِّر لنا ياها…! إي افتي لنا ياها…! إي جينا لعندك من كرم الميسَّر لهون جيايين… أخر الشَّي تقول لنا: حرام؟!! افتي لنا ياها! دبِّرها من هون لهون…منعرفك أنت عالم علَّامة…»
«العالم العلَّامة بيحل الحرام؟!! النَّاس هيك في زمانَّا… فإذا ما حلَّلُّوا ياها بيقول له إي تصطفل حرام؟ إي في مية شيخ غيرك بيفتي لي ياها…! وقَّفت عليك؟! فعلاً في مية شيخ غيرو بيفتوا له ياها… بيروح بدوِّر… إذا لقى كلُّ واحد: حرام حرام حرام… آخر الشِّي بيروح لعند واحد بيقول له شيخي حلال؟ بيقول له حلال! بيقول له الله يجزيك الخير ريَّحتني برَّدتلي قلبي…! واحد ريَّحو! بينما الصَّواب إنُّو لو كلَّهم قالوا له: حلال وواحد قال له: حرام بيتم في شكّ ويترك الأمر ولا يفعله» [فمن اتَّقى الشُبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه].
«إي قال: بس بقى هلَّأ بزمانَّا صار النَّاس رجليهون لفوق ورأسون لتحت!! صاروا بالمقلوب! الحلال صار عندهم حرام والحرام صار حلال! التَّقوى والورع صار تشدُّد! صار إذا واحد متورِّعٌ عن الشُّبهات تاركٌ للحدود… بيقول له: إي لا تمسكها حنبليِّة!» [إنَّ هذا الدِّين يُسر]! [يسِّروا ولا تعسِّروا]!
«شوي شوي التَّيسير عب ينمطّ، يعني قال: من التَّيسير اللِّي يسَّروا الإسلام المسح على الخفِّين مثلاً والجوربين، إي شوي شوي بصير يصر التَّيسر إنُّو واحد إذا الدُّنيا برد بدُّو يقوم يصلي ما ضروري يتوضَّأ…!! يسِّروا ولا تعسِّروا! هلَّأ ضروري الوضوء؟! هلَّأ أنت أكرم من الله بيقول له؟!».
إذاً ما كان كذلك المستفتون… «سأل الإمام مسألة قال له الحكم ما يراجعوا أبداً، إذا راجعوا بتقوم الدُّنيا عليه… النَّاس كلُّهم ينظرون إليه نظرة الازدراء… إيش هال قلِّة أدب؟!» ينبغي أن يكون متأدِّباً مع العلم ومع حاملي العلم…
«شال حالو هدا الرَّجل ومشي زوجتو طلقت؟ طلقت…» فلحق به الإمام الشَّافعيُّ وكان جالساً في مجلس الإمام مالك، قال: يا هذا أعد عليَّ مسألتك «برَّى الجامع صار يسأله» قال: أنا قلت: زوجتي طالق إنْ سكت عن التَّغريد… قال له: زوجتك لم تطلق… قال: الإمام قال لي طلقت! قال: عُد إليه فسأله السُّؤال مرَّةً ثانية…
«شوف… شوف الأدب، ما قام بِنُصِّ الدَّرس قدّام النَّاس قال له يا إمام: انتبه على فتواك! عب تخطئ إنت ما طلقت! لأ، راح قال له»: سل الإمام مرَّةً ثانية السُّؤال نفسه فإذا قال لك: طلقت قل له: ولكنَّ واحداً في مجلسك أفتى لي بأنَّها لم تطلق وأشر إليَّ… «يعني قال لحالو: فرصة بركي منبيِّن قدَّام أستاذنا وشيخنا، يعني كلُّ إنسان بيحبّ يبيِّن هيكي! قدَّام أستاذه إنُّو هو بيعرف ».
فعاد الرَّجل، قال: يا إمام أسألك السُّؤال مرَّة ثانية كذا كذا… قال له: قلت لك: طلقت، قال: ولكنَّ هذا الفتى أفتى لي بأنَّها لم تطلق! قال: أنت يا محمَّد بن إدريس؟ قال: نعم، قال: ما الدَّليل؟ قال: يا إمام (لاحظ بُعد نظر الإمام الشَّافعيِّ ودقَّته في الاستنباط) قال يا إمام: وردنا حديث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عندما جاءته امرأةٌ تستفتيه في رجلين خطباها، فقال: [أمَّا معاوية فصعلوكٌ لا مال له، وأمَّا أبو الجهم فلا يضع العصا عن عاتقه…] هذا لا يضع العصا عن عاتقه بعض العلماء فسَّرها بأنَّه كثير الأسفار « بيسيفر كتير » والبعض فسَّرها: بأنَّه يضرب النِّساء كثيراً، وهذا هو الأرجح للرِّواية الأخرى: [وأمَّا أبو الجهم فضرَّابٌ للنِّساء].
قال: يا إمام أفرأيت أبا الجهم يضع العصا عن عاتقه أم لا؟ قال: بلى، قال: فهذه كتلك، قال: رسول الله يقول: أبو الجهم لا يضع العصا عن عاتقه على سبيل الكثرة، فإذا ترك أبو الجهم العصا عن عاتقه لم يكن رسول الله يكذب وحاشى له ذلك، وكذلك هذا الرَّجل عندما يقول: لا يسكت عن التَّغريد على سبيل التَّكثير والمبالغة، ولكن يمكن أن يسكت عن التَّغريد… لاحظ الدِّقَّة.
هذا الحديث يذكره علماء الحديث في باب الغيبة المباحة، «هون الغيبة مباحة»، يذكرونه في كراهة ضرب النِّساء، يذكرونه في مدح المال والغنى، لأنَّه قال: [أمَّا معاوية فصعلوكٌ لا مال له]، يذكرونه في باب استشارة أهل الفضل في الأمور المهمَّة… ولكن ما أحد من علماء الحديث على الإطلاق ذكره في باب النِّكاح والطَّلاق… الإمام الشَّافعيُّ أخذه من هذه الأبواب كلِّها… واستشهد بها في مسألةٍ من مسائل الطَّلاق… وهنا شهد الإمام مالكٌ بفضل الإمام الشَّافعيِّ و بأدبه.
رُويت حادثةٌ طريفةٌ أيضاً عبَّرت عن تأدُّب الإمام الشَّافعيِّ مع الإمام مالك، وعن اعتراف الإمام مالك بفضل الإمام الشَّافعيِّ، وذلك… قال: رُوي أنَّه دخل الإمام مالكٌ المسجد والإمام الشَّافعيُّ يدرِّس فيه بعد أن صار يدرِّس، وقد مرَّ بمراحل كثيرة كما سوف نفصِّل في ذلك مع كلِّ إمامٍ على حدة، وذلك لضرورة أنْ نتعرَّف على أهل العلم قبل أنْ نتعرَّف على العلم بذاته، قال: فاستمع الإمام مالكٌ إلى درس الإمام الشَّافعيِّ فأعجب بعلمه، فكتب على سارية المسجد: (من أراد العلم النَّفيس فليطلبه عند محمَّد بن إدريس) يقصد الإمام الشَّافعيَّ، فلمَّا فَرُغَ الإمام الشَّافعيُّ من درسه قام فرأى مكتوباً على هذه السَّارية هذا الكلام، فعلم أنَّ الَّذي كتبه هو أستاذه وشيخه الإمام مالك، فكتب تحته بأدبٍ وتواضع: (كيف يكون ذلك؟ وهو تلميذ مالك؟)… هكذا كانوا رضوان الله تعالى عليهم.
وهكذا كان من بعدهم معهم، فها هو الرَّبيع تلميذ الإمام الشَّافعيَّ (الرَّبيع بن سليمان المُزني)، وهو من خيرة من أخذوا العلم عن الإمام الشَّافعيِّ ونشروا مذهبه، قال: (صحبت الإمام الشَّافعيَّ عشر سنين ولم أجترئ يوماً على أنْ أشرب الماء أمامه احتراماً له وهيبةً)…!!
الإمام الشَّافعيِّ «ما نتصوَّر أنو كانوا يعظموا أنفسهم ويحيطوا أنفسهم بهالة من التَّقديس ومن البركات، وفي بروج عاجيَّة يقعدوا…! لأ لأ أبداً» وإنَّما هم أفرادٌ من المجتمع لا يتميَّزون بشيءٍ عن المجتمع، ولكن الإنسان العاقل كلَّما ازداد العالم تواضعاً له ازداد احتراماً له، أمَّا الإنسان الجاهل: كلَّما ازداد الإنسان تواضعاً له ازداد زهداً فيه…!!
يعني الآن نجد النَّاس العوامَّ يحترمون العالم ذا العمامة الأكبر! وذا اللِّحية الأطول! يحترمون العالم إذا كانت جماعته تعُدُّ عدداً أكبر! ولا يُميِّزون بين عالمٍ وجاهلٍ، بين عالمٍ علماً حقيقيَّاً وبين دعيٍّ من أدعياء العلم! لا يُميِّزون في ذلك، رُوي لنا عن أحد مشايخ حلب وفقهائها في المذهب الحنفيِّ (الشَّيخ محمَّد الملَّاح) رحمه الله تعالى أنَّه جرت معه حادثةٌ لطيفة، و كان ممَّن يتواضعون وإنْ زهد فيهم النَّاس، وهذا هو ما ينبغي على العالمِ… «يعني والله إذا أنا بدِّي أتواضع النَّاس بدُّون يزهدوا فيني أي أنا ما بتواضع؟ لأ بتواضع، ويصطفلوا… أنا عملت من أجل الله مو من أجل النَّاس» الإنسان العاقل يحترم المتواضع «بس بقى إذا ما في ولا واحد عاقل…! ما بيتواضع؟» بلى، عندها من أجل الله جلَّ وعلا « لأنُّو هاد حال النَّاس في زمانَّا » كما قيل:
ما أكثرُ النَّاسِ لا بلْ ما أقلَّهـمُ * اللهُ يعلمُ أنِّيْ لمْ أقـلْ فنـدَا
إنِّي لأرفعُ عيني ثمَّ أخفضها على * الورى غيرَ أنِّي لا أرىَ أحدَى
«ما في حده…! هدول بشر هدول؟!» قال: كان الشَّيخ محمَّد الملَّاح رحمه الله تعالى واقفاً مع واحدٍ من مشايخ الطَّريقة (مشايخ الطَّريقة طبعاً نحن نحترم كلَّ أهل العلم، ولكنْ ما كانوا يُركِّزون على العلم تركيزاً كبيراً، وخاصَّةً بالنِّسبة لهذا الشَّيخ رحمه الله تعالى، كان في بديات طلبه للعلم وإن كان صار فيما بعد عالماً جليلاً، ولكن كان في بدايات الطلب) وكان الشَّيخ محمَّد الملَّاح من جُلَّة علماء حلب، وكان هذا تلميذاً له، ولكنْ الشَّيخ يلبس لباساً عاديَّاً كما يلبس أيُّ إنسانٍ، وهذا التِّلميذ يلبس جُبَّةً وعِمامةً كبيرةً عريضة! يدلُّ بها على أنَّه عالمٌ بالنِّسبة للإنسان العاميِّ…
قال: فجاء واحد بدويٌّ «في عندو سؤال» سلَّم على من مظهره مظهر العلم… ولكنَّه تلميذاً لا يزال فقبَّل يده واحترمه كلَّ احترام، وقال: له السَّلام عليكم يا شيخي ادعي لنا… ثمَّ سلَّم على ذلك الشَّيخ الجليل الفاضل… قال له: «أهلين حجِّي شلونك؟»!! «اندار على صاحب العمامة» قال له: «شيخي عندي سؤال، قال له: ما أنا الشِّيخ ما أنا الشِّيخ، هاد الشِّيخ اندار قال له: إيه، اندار على الشِّيخ قال له: حجِّي عندي سؤال… الحجِّي حجِّي…! قال له: عندي سؤال، قال له: تفضَّل، سأله السُّؤال… جاوبه عليه، قال له: الله يعطيك العافية يا حجِّي… اندار على التِّلميذ وبوَّس إيدو وقال له: ادعيلنا شيخي…ومشي!! يعني لآخر لحظة وصاحب العمامة هوِّ الشِّيخ واللِّي مالو عمامة حجِّي! تغيَّر له هال الفكرة ما بيمشي الحال…»!
«متل ما قال لي أحد الإخوة قال لي: أستاذ مو يعني كل ما واحد كبرت عمامته وطولت دقنو معناتها زاد علمو؟» وكنت يومها أضع عمامة، فقلت له: يا أخي من أجل خاطرك من يوم الغد لن أضع عمامة على رأسي، من يوم الغد لن أضع العمامة… وإنَّما سوف أكتفي بوضع شيءٍ يشبه العمامة لكي نتمثَّل شيئاً من سنَّة، ولكنْ حتَّى أظهر لك وللأمثالك أنَّني إنسان جاهل… «لأنُّو ما عندي عمامة… إذا كان بدكون تجو منشان العمامة شلتها ما بقى حدا يجي لعندي، اللِّي بدُّون عمامة لا يجو لعندي… لأنُّو هدول بدُّون يجو بدُّون يصيروا حجَّة عليّ، بصير يسمعوا الكلمة يؤولوها بالمقلوب، إذا كان عندهم العلم بالعمامة بيسمعوا الكلمة منِّي بيأولوها بالمقلوب… ما بدنا ياهون هدول…».
كما قال الإمام أبو يوسف رحمه الله تلميذ الإمام أبي حنيفة، قال: (لو كان العوامُّ عبيداً لي لأعتقتهم…) وخلصت… خلصت منهم، عانى كثيراً العلماء على اختلاف الأزمنة من العوامِّ، ومن مشكلات العوامِّ، ومن الفهم الأعوج للعوامِّ… عانوا كثيراً… «بيسمع الكلمة من الشَّرق بيأولها بالغرب… وهكذا»
إذاً قال: ما اجترئ أنْ يشرب الماء أمامه هيبةً له واحتراماً، رضوان الله تعالى عليهم، هكذا كانوا، رغم أنَّهم يخالفون بعضهم في الآراء، ولكن يظلُّون على المحبَّة وعلى الاحترام.
أمَّا اليوم إذا نظرنا إلى حال علماء اليوم، فهل نجد لهذا أثراً يا ترى؟ هل نجد لهذه المحبَّة ولهذا العرفان بالجميل أثراً؟ أم إنَّ العالم يرتقي المنبر فيقول له: …! ما نقول ماذا يقول له… لأنَّ الأمر أظهر من أن يُظهر ويُبيَّن.
كان التَّناصح بالمُدَارسة، وبالمساجلات العلميَّة اللَّطيفة، حتَّى بين أصحاب الطَّوائف المتنافرة المتناحرة… يعني على سبيل المثال من أكثر الطَّوائف المتنافرة الشِّيعة والسَّلفيَّة، وكان على رأسهم إمامهم شيخ الإسلام ابن تيمية، قال: وكان هناك شيخ من مشايخ الشِّيعة الكبار اسمه (ابن مطهَّر) فكانا يتراسلان كثيراً ويتبادلان التُّهم ولكنْ في آخر يوم ما استمرَّ الأمر على حاله وإنَّما انتهى الأمر بملاطفة… اجتمعا معاً فسأله ابن تيمية قال له: من أنت ما اسمك؟ قال: أنا الَّذي تقول: عنِّي ابن منجَّس… «هوِّ ابن مطهَّر ولكن كان يقول له ابن منجَّس…» فصارا يتدارسان مسائل من العلم، وزالت الأغبرة الَّتي كانت بينهما، وصارا متحابِّين متوادِّين…!
إذا كان غير المسلمين يدعون إلى المحبِّة بين العنصر البشري على وجه العموم، حتَّى قال الشَّاعر النَّصراني:
يا أخي لا تملْ بوجهِكَ عنِّـي * ما أنا فحمةٌ ولا أنتَ فرقـدْ
أنتَ مثليْ منَ الثَّـرى وإليـه * فلماذا يا صاحبي التِّيهُ والصَّدْ؟
هذا نصراني يقول ذلك… أفليس من باب أولى أنْ يقول ذلك المسلم في خطابه للمسلمين؟ إذا كان الله أمرنا باللُّطف في حوار النَّصارى عندما قال: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} ، أفليس من باب أولى أنْ نتعامل باللُّطف في الحوار بيننا – معشر المسلمين – وبين البعض الآخر؟
إذاً هكذا كانوا وهكذا ينبغي أنْ نكون، هكذا كانوا فبنوا علماً وبنوا حضارةً وبنوا مدنيَّة، وإذا أردنا أنْ نبني مثل ما بنوا علينا أنْ نكون مثل ما كانوا، رضوان الله تعالى عليهم.
يمكن أنْ نُجمل ما تميَّز به كلُّ إمامٍ من الأئمَّة الأربعة رضوان الله عليهم، في مذهبه، ما تميَّز به في طريقة الاستنباط، حتَّى نعرف المنهج العلميَّ الَّذي سار عليه، ثمَّ نعرف كيف ينبغي نحن أنْ نسير اليوم.
أمَّا الإمام أبو حنيفة رحمه الله وأصحابه فقد سمُّوا بمدرسة أهل الرَّأي، وسمُّوا بذلك لأنَّ الإمام أبا حنيفة هو أوَّل من جعل القياس مصدراً من مصادر التَّشريع.
ومصادر التَّشريع الأصليَّةُ كما نعلم: القرآن والسُّنَّة وهما المصدران اللَّذان لا يقارعان، ثمَّ بعد ذلك الإجماع، والإجماع من قبل علماء المسلمين في زمانٍ من الأزمنة ملزمٌ لهم ولمن بعدهم أيضاً، ثمَّ القياس، والقياس ما كان موجوداً قبل الإمام أبي حنيفة، وإنَّما الإمام أبو حنيفة هو الَّذي جعله مصدراً من مصادر التَّشريع، مستنداً في ذلك لأدلَّة…
فجاءه الإمام جعفر الصَّادق الَّذي كان أستاذه… قال: يا أبا حنيفة كيف تقيس وأنت تعلم أنَّ إبليس أوَّل من قاس؟! كما قال علماء التَّفسير: إبليس أوَّل من قاس، يعني قاس القياس العقلي، وذلك عندما قال: أنا خيرٌ منه خلقتني من نارٍ وخلقته من طينٍ… جعل المقايسة بين أمرين.
فقال الإمام أبو حنيفة: يا إمام أنا أقيس فيما لا نصَّ فيه، وأمَّا إبليس فقد قاس في مورد النَّصِّ «الله عب قول له»: اسجد، اسجدوا، فقال: أأسجد لمن خلقت طيناً؟! ولا اجتهاد في مورد النَّصِّ، ولا قياس في مورد النَّصِّ، أمَّا أنا فما لم يرد فيه نصٌّ أقيس فيه.
إذاً لذلك سُمِّي أصحاب أبي حنيفة بأصحاب الرَّأي، ولكنْ هذا لا يعني أنَّهم ردُّوا أحاديث لكي يقدِّموا العقل… لا، هذا ليس من شيم أبي حنيفة، وإنَّما هو من شيم المعتزلة، وغيرهم ممَّن شذُّوا عن القاعدة الشَّرعيَّة الَّتي هي الأخذ بالكتاب والسُّنَّة والانسياق لها، وإنْ لم يرض بها عقلنا، وأمَّا الإمام أبو حنيفة فما لم يرد فيه نصٌّ شرعيٌّ أعمل عقله فيه، فسُمُّوا بأصحاب الرَّأي.
وسار على ذلك الإمام الشَّافعيُّ والإمام مالك.
الإمام الشَّافعي أدخل مصدراً من مصادر التَّشريع التَّبعيَّة ألا وهو الاستحسان… وأخذ بذلك بأدلَّةٍ منها: حديث الإمام أحمد الحسن الَّذي يقول فيه عليه الصَّلاة والسَّلام: [ما رآه المسلمون حسنٌ فهو عند الله حسنٌ] وغير ذلك من الاستنباط العقلي في مسألة الاستحسان…
أمَّا الإمام أحمد بن حنبل فلا اعترف بقياس أبي حنيفة ولا اعترف بقياس الشَّافعيِّ؛ بل إنَّه لم يعترف بمنهج الأئمَّة الثَّلاثة – رضوان الله عليهم – كلِّه في استنباط الأحكام…
ونحن إذْ نتكلَّم بذلك لا ننتقص من فضل الإمام أحمد حاشى، وهو إمامنا، وهو معلِّمنا الجهاد… ومعلِّمنا الصَّبر في صبره رضوان الله عليه على المحنة الَّتي خضع لها… وفي طلبه للعلم صادقاً… فهو الإمام الَّذي حجَّ ستَّ مرَّاتٍ من بلده بغداد إلى مكَّة المكرَّمة، من ضمنها أربع مرَّاتٍ حجَّ فيها ماشياً على قدميه! وهو الإمام الَّذي ذهب من مكَّة إلى اليمن ماشياً على قدميه… لكي يلقى المحدِّث عبد الرَّزَّاق ويقرأ عليه المصنَّف ويروي عنه الأحاديث الَّتي يرويها… فهو إمامٌ ليس مثله من ظهر بعده، تلك أمَّةٌ لا يمكن أنْ يجود الزَّمان بمثلها، ولكنْ نحن نتكلَّم من باب التَّحليل العلميِّ لمنهجهم رضوان الله عليهم ورحمته.
فالأئمَّة بمجموعهم – باستثناء الإمام أحمد – اعتمدوا التَّأويل المعتدل للأدلَّة الشَّرعيَّة من كتابٍ ومن سنَّةٍ، فهناك أحاديث إذا فُسِّرت على ظاهرها فإنَّ فيها شدَّة، وفيها مخالفةً لأدلَّةٍ أخرى، ولكنْ يمكنُ أنْ تأوَّل حتَّى نفهمها فهماً معتدلاً، فهذه مسألة عقليَّة ثابتة، ومسألة شرعيَّة ثابتة أيضاً.
الإمام أبو حنيفة زاد فيها فسمِّي أصحابه بأصحاب الرأي، والإمام الشَّافعي والإمام مالك أخذوا بها أيضاً، وأمَّا الإمام أحمد فلم يأخذ بالتَّأويل على الإطلاق، وإنَّما أخذ بالدَّليل على ظاهره دون أنْ يأوِّله أبداً، لذلك سُمِّي هو وأصحابه بأهل الظَّاهر… لأنَّهم كانوا يأخذون ظواهر الأدلَّة دون أن يُعملوا فيها التَّأويل أو العقل على الإطلاق.
وجرت مناقشات بينهم علميَّةٌ جادَّةٌ موضوعيَّةٌ، منها المناقشة الَّتي جرت حول حديث تارك الصَّلاة وحكمه: [إنَّ بين الرَّجل وبين الشِّرك والكفر ترك الصَّلاة].
الأئمَّة الجمهور أوَّلوا هذا الحديث على أنَّه إذا أنكر الصَّلاة، وتركها منكراً يكفر، وأمَّا إذا تركها متكاسلاً متهاوناً لا جاحداً فإنَّه يفسق ولا يكفر.
وأمَّا الإمام أحمد فقد أخذ الدَّليل على ظاهره فقال: الدَّليل لم يرد فيه إذا أنكر وإذا ما أنكر… الدَّليل ظاهر، نأخذ بالظَّاهر منه فنقول: تارك الصَّلاة كافر، وإن كان تاركاً لها على سبيل التَّكاسل…
قال له الإمام الشَّافعيُّ مرَّةً في إحدى المناظرات الرَّائعة الَّتي كانت الأمَّة الإسلاميَّة ممتلئة بها… قال له: يا أحمد، وكان الإمام أحمد متتلمذاً على الإمام الشَّافعيِّ أيضاً (الإمام الشَّافعيُّ واحدٌ من أساتذته) قال: يا أحمد أنت تقول تارك الصَّلاة كافر؟ قال: نعم، قال: فبمَ يدخل الإسلام؟ قال: بأنْ يشهد أنْ لا إله إلَّا الله، وأنَّ محمَّداً رسول الله، قال الإمام الشَّافعيُّ: فإنَّه لم يدع الشَّهادتين «هوِّ عب يتشاهد» ولكنَّه لا يصلِّي…
قال الإمام أحمد: إذن يصلي حتَّى يدخل الإسلام، فقال الإمام الشَّافعيُّ: وكيف يصلِّي والصَّلاة لا تُقبل من كافر؟! «بدُّو يأسلم حتَّى يصلِّي، يعني صار المسألة السَّبب نتيجة والنَّتيجة سبب… شلون بدُّو يزبطو؟» الصَّلاة شرطٌ من شروط الإسلام، والإسلام شرطٌ من شروط الصَّلاة «إي ما بيزبطو» قال: فسكت الإمام أحمد ولكنَّه ما غيَّر رأيه… «الحديث قال: واضح ما بغيِّر رأيي».
إذاً هنا يظهر شدَّة المذهب الحنبليِّ في مسألة الظَّاهر، لذلك فقد كان المذهب الشَّافعيُّ هو من المذاهب الأكثر انتشاراً في ذلك الزَّمان، في زمان انتشار المذاهب.
أمَّا لماذا انتشر المذهب الشَّافعيُّ أكثر من المذهب الحنفيِّ؟ وأكثر من المذهب المالكيِّ؟
وما موقفنا تجاه هذه المذاهب؟
هل نكون لا مذهبيِّين؟ وهذا أمرٌ لا يمكن أن يكون مرضيَّاً من قبل المنطق والعقل…
أم نكون متعصِّبين لمذهبٍ محدَّدٍ وننكر كلَّ الاجتهادات الأخرى؟
ثمَّ هل نقول: إنَّ الأئمَّة الأربعة قد استنفذوا واستهلكوا الفقه الإسلاميَّ فََسُدَّ باب الاجتهاد؟
أم نفتح باب الاجتهاد على مصراعيه مبالغين في ذلك؟
كلُّ هذه المسائل الهامَّة الَّتي يتوقَّف عليها فهمنا للإسلام وفهمنا للفقه الإسلاميِّ، ويتوقَّف عليها بعد ذلك دراستنا لعلم الفقه الإسلاميِّ… كلُّ ذلك من المقدِّمات الَّتي سوف تكون سبيلاً لدخولنا إلى علم الفقه، نتكلَّم عنها إنْ شاء الله في الأسبوع القادم، والحمد لله ربِّ العالمين.
اللَّهمَّ إنَّا نسألك علماً نافعاً، وقلباً خاشعاً، ولساناً ذاكراً، وعملاً صالحاً متقبَّلاً، ونعوذ بك من علمٍ لا ينفع، وقلبٍ لا يخشع، ونفسٍ لا تشبع، وعينٍ لا تدمع، وعملٍ لا يرفع، ودعاءٍ لا يسمع يا ربَّ العالمين، اللَّهمَّ إنَّك عفوٌّ تحبُّ العفو فاعفُ عنَّا، اللَّهمَّ حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا اللَّهمَّ من الرَّاشدين، اللَّهمَّ ثبِّتنا بالقول الثَّابت في الحياة الدُّنيا وفي الآخرة، اللَّهمَّ ارحمنا فإنَّك بنا راحم، ولا تعذِّبنا فإنَّك علينا قادر، والطف بنا فيما جرت به المقادير، اللَّهمَّ إنَّا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحبَّ المساكين، اللَّهمَّ اجعلنا هادين مهتدين غير ضالِّين ولا مضلِّين، سلماً لأوليائك حرباً على أعدائك، اللَّهمَّ اجزِ عنَّا نبيَّنا محمَّداً صلَّى الله عليه وسلَّم ما هو أهله، اللَّهمَّ اجزِه عنَّا خير ما جزيت نبيَّاً عن أمَّته، واجزِ عنَّا مشايخنا ومن علَّمنا ما هم أهله يا ربَّ العالمين، اللَّهمَّ صلِّ على سيِّدنا محمَّدٍ صلاةً ترضيك وترضيه وترضى بها عنَّها، اللَّهمَّ بفيضك العميم عمَّنا، واكفنا اللَّهمَّ شرَّ ما أهمَّنا وأغمَّنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسُّنَّة جمعاً توفَّنا، نلقاك اللَّهمَّ وأنت راضٍ عنَّا، وصلِّ اللَّهمَّ على سيِّدنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وسلِّم والحمد لله ربِّ العالمين.
*****

الملفات الصوتية
الملف الأول3.8 MB
الملفات النصية
الملف الأول110.5 KB
أرسل هذه الصفحة إلى صديق
اسمك
بريدك الإلكتروني
بريد صديقك
رسالة مختصرة


المواضيع المختارة
مختارات

[حسن الظن بالله]

حسن الظن بالله يعني أن يعمل العبد عملاً صالحاً ثم يرجو قبوله من الله تعالى ، وأن يتوب العبد إلى الله تعالى من ذنب عمله ثم يرجو قبول الله تعالى لتوبته ، حسن الظن بالله هو ذاك الظن الجميل الذي يأتي بعد الفعل الجميل.
يقول النبي عليه الصلاة والسلام : {لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى.}
قال سبحانه في الحديث القدسي :{ أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني } أنا عند ظن عبدي بي فإذا ظننت أنه يرحمك وأخذت بأسباب الرحمة فسوف يرحمك ، وأما إن يئست من رحمته وقصرت في طلب أسبابها فإنه لن يعطيك هذه الرحمة لأنك حكمت على نفسك والله تعالى سيحكم عليك بما حكمت أنت على نفسك .