الخطب > إخلاص العبوديَّة لله تعالى
إخلاص العبوديَّة لله تعالى

الَّذي يتأثَّر بكلام النَّاس، ويعمل من أجلهم، ويترك من أجلهم، ويغيِّر أفكاره من أجلهم، ويغيِّر مبادئه من أجلهم، من النَّاحية النَّفسيَّة مهزوز الشَّخصيَّة، مهزوز الإرادة، ضعيف الكيان والتَّكوين، لذلك يسهل تغييره بمجموعةٍ من الكلمات تقال له.

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمد لله، الحمد لله ثمَّ الحمد لله، الحمد لله نحمده، نستعين به نستهديه نسترشده، نتوب إليه نتوكَّل عليه، (انزع هذا من يدك [من مسَّ الحصى فقد لغا] أثناء خطبة الجمعة)، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، {مَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا*} ، و أشهد أنْ لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ سيِّدنا محمَّداً عبده ورسوله، وصفيُّه وخليله، خير نبيٍّ اجتباه، وهدىً ورحمةً للعالمين أرسله، صلَّى الله تعالى عليه وعلى آله وصحبه، ورضي عن خاصَّة أصحابه سادتنا أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليٍّ، وعن بقيَّة العشرة المبشَّرين بالجنَّة، وعن السِّبطين الأكرمين أبي محمَّدٍ الحسن، وأبي عبد الله الحُسين، وعن أمِّهما فاطمة الزَّهرا، وجدَّتهما خديجة الكبرى، وعن عائشة أمِّ المؤمنين، وعن جميع الآل والصَّحابة، والأهل والأزواج والقرابة، والتَّابعين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدِّين وعنَّا معهم برحمتك يا أرحم الرَّاحمين.
أمَّا بعد:
أيُّها الإخوة والأحبَّة:
إنَّ الله تعالى خلق الإنسان ليكون عبداً له، عابداً له، خالص العبوديَّة، خالص العبادة… خلق الله الإنسان له وحده، وليس لله تعالى شريك في الخلق، ولذلك… وجب على الإنسان أنْ يكون عبداً لله وحده، وأنْ لا يجعل له شريكاً في العبادة.
الله سبحانه خلق، ورزق، وأعطى، وقدَّر، وهدى… فما في الإنسان خيرٌ إلَّا وهو من الله سبحانه، لذا إنْ هو توجَّه إلى غير الله في العبادة، فإنَّه يكافئ منْ لم يعطه! وينكر جميل من أعطاه!
الله سبحانه مستحقٌ للعبادة وحده، لأنَّه الإله القويُّ القدير، ولأنَّه بذاته يستحقُّ أنْ يعبد، فكيف وقد غمر العبد بفضله! وقد عمَّته نعمه وآلاؤه! فكلُّ ما يعطيه الإنسان لغير الله يكون وضعاً للشُّكر في غير موضعه.
من هنا ينبغي أنْ نعلم -أيُّها الأحبَّة- أنَّ هذا الشِّرك ليس على درجةٍ واحدةٍ، وأنَّ الَّذين يعبدون غير الله ليسوا كلُّهم صنفاً واحداً، منهم منْ يكون شركه ظاهراً فيعبد كوكباً، أو تمثالاً، أو بشراً… ومنهم منْ يكون شركه خفيَّاً فيتوجَّه إلى غير الله بالخوف، أو يتوجَّه إلى غير الله بالحبُّ، أو يتوجَّه إلى غير الله بالرَّغبة… وينسى الله تعالى الَّذي هو وحده المستحق لكل ذلك، والله جلَّ وعلا إنَّما خلق الخلق ليكونوا عبيداً له وحده فقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ*} … أي خلقت الجنَّ والإنس فقط ليعبدوني، لا ليفعلوا لي شيئاً آخر، وخلقت الجنَّ والإنس فقط ليعبدوني لا ليعبدوا غيري، فالقصر هنا {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ*} يحمل معاني عديدة… يحمل إفراد الفعل المطلوب من البشر بالعبادة، ويحمل أفراد المعبود بذات الله سبحانه وتعالى، {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ*} .
لو تأمَّلنا أخوتي في أحوال المسلمين اليوم لرأينا نفوسهم قد تفرقت أهواؤها، بين الله والنَّاس، ([من مسَّ الحصى فقد لغا] أثناء خطبة الجمعة، فكيف بالكتابة وبالانشغال بهذه الأشياء!!) لو تأمَّلنا في النَّاس لرأينا نفوسهم متفرِّقةً، فتارةً ترى الهوى متوجِّهاً إلى فردٍ بذاته من النَّاس، وأكثر من يقع في ذلك أتباع زعيمٍ من الزُّعماء، ربَّما يحملهم على الكفر بالله… فيكفرون، وربَّما يحملهم على إنكار وجود الله… فيفعلون، وربَّما يحمله على المعصية… فيطوعونه ويعصون الله تعالى…
وقد يقع في ذلك من يتعلَّق هواه بامرأةٍ من النِّساء، أو فتاةٍ من الفتيات، فتشغل عليه قلبه وعاطفته وتفكيره فلا يرى غيرها في الوجود، وربما يحمله حبُّها على نسيان الله، والتَّقصير في طاعته…
ومن النَّاس من ينشغل هواه بالنَّاس جملةً، دون تحديد فردٍ معينٍ منهم، وهذا حال غالب النَّاس، الَّذين انشغلت قلوبهم بالنَّاس، فعملوا من أجل النَّاس، وتركوا من أجل النَّاس، وعلَّقوا قلوبهم بالنَّاس، فعباداتهم مربوطةٌ بهم، وأعمالهم مبنيَّةٌ على آرائهم… وهذا يخفى على كثيرين من هؤلاء.
وإنِّي أقول أيُّها الأحبَّة: إنَّ المرائي الَّذي يعمل من أجل النَّاس، ويظنُّ أنَّه قد تفوَّق عليهم، وقد سبقهم هو أقلُّهم قدراً وأضعفهم شخصيَّةً، لأنَّه سهل عليه أنْ يتأثَّر بهم…
الَّذي يتزيَّن بمظهرٍ جميلٍ لا امتثالا للسُّنَّة… إنَّما من أجل النَّاس، يرى أنَّه صار لافتاً للانتباه، وصار النَّاس كلُّهم يتعلَّقون به، فيرى أنَّه صار فوقهم، وهو في حقيقة الأمر دونهم، لأنَّه عمل من أجلهم، فهم قدوته، وهم مقصده، وهو لم يعمل إلَّا من أجل من هو أعلى منه…
وهكذا نلمح -أيُّها الأحبَّة- أنَّ الكثرة الغالبة من المسلمين اليوم قلوبهم معلَّقةٌ بالنَّاس، أفراداً تارةً، والمجتمعاً تارةً أخرى… قد يعرف الحقَّ، ولكنْ لأنَّ النَّاس يقولون هذا باطل، تراه يشكُّ في الحقِّ، ويصدِّق كلام الباطل، فيقلب الحقَّ باطلاً والباطل حقَّاً، لأنَّ أعماله وأفكاره مرتبطةٌ بالنَّاس، فهو لا يحبُّ أنْ يقال عنه: هو مخطىء، وهو لا يرضى أنْ يتَّهم من النَّاس بالضَّلال، حتَّى ولو كان موقناً بفساد أقوالهم…
وما هذا إلَّا مظهرٌ من النَّاحية النَّفسيَّة لضعف الشَّخصيَّة، ومن النَّاحية الإيمانيَّة لضعف الإخلاص، الَّذي يتأثَّر بكلام النَّاس، ويعمل من أجلهم، ويترك من أجلهم، ويغيِّر أفكاره من أجلهم، ويغيِّر مبادئه من أجلهم، من النَّاحية النَّفسيَّة مهزوز الشَّخصيَّة، مهزوز الإرادة، ضعيف الكيان والتَّكوين، لذلك يسهل تغييره بمجموعةٍ من الكلمات تقال له.
ونحن في زمان الغرور لا يُستَغرب أنْ يكون زماننا نفسه زمان ضعف الشَّخصيات، لأنَّ الغرور وضعف الشَّخصية متلازمان، المغرور هو نفسه ضعيف الشَّخصيَّة، وضعيف الشَّخصيَّة هو نفسه المغرور…
وأمَّا قويُّ الشَّخصيَّة فهو المتواضع، والمتواضع هو قويُّ الشَّخصيَّة، كيف يكون ذلك؟ ضعيف الشَّخصيَّة ليس عنده ثقةٌ كاملةٌ بما عنده، لذلك يغطِّي نقصه، ويحلَّ عقدة النَّقص الَّتي يعاني منها بأنْ يغترَّ برأيه، ويمتنع عن النِّقاش المنطقي له، ويمنع النَّاس من مناقشته، لا لأنه واثق تمام الثِّقة بما عنده، بل لأنَّه ضعيف الثِّقة أو معدومها لذلك يُظهر الغرور تعويضاً للنَّقص الَّذي في داخله…
وبقد ما يكون واثقا بما عنده، يكون أكثر استعداداً لمناقشته، ولتغيير أفكاره في حال كانت خاطئة…
وبقدر ما يكون أكثر اهتزازا وتذبذباً في داخله بقدر ما يهرب من مواجهة نفسه، ونقاش أخطائه، فيغطي عقدة النَّقص بالغرور…
زماننا هذا كما أسلفت زمان غرور، لذلك هو زمان ضعف شخصيَّة، المرائي مغرورٌ ضعيف الشَّخصيَّة في آنٍ واحدٍ، مغرورٌ لأنَّه يتصوَّر في نفسه الذَّكاء، يخدع زيداً وعمراً، ويظنُّ أنَّ زيداً وعمراً صدقاه في وقت واحد… فله أكثر من وجه، [تجدون شرَّ النَّاس ذا الوجهين الَّذي يأتي هؤلاء بوجهٍ وهؤلاء بوجهٍ]، صدق عليه الصَّلاة والسَّلام، ولكنَّه في الوقت نفسه ما فعل ذلك إلَّا لاهتزازه، وضعف شخصيَّته، وضعف ثقته بما عنده، لذلك ليس مستعدَّاً لإظهار شكلٍ واحدٍ، لأنَّه ليس واثقاً بأنَّ شكلاً من هذه الأشكال هو الصَّواب…
من هنا أقول: إنَّ ضعف الشَّخصيَّة الَّذي يعاني منه أُناس هذا الزَّمان هو الَّذي أدَّى إلى كثرة الرِّياء؛ فالنَّاس باتوا يعملون من أجل النَّاس، ويفكِّرون من أجل النَّاس، فصار النَّاس معبودين، بينما يزعمون أنَّ الله هو المعبود، يعبدون أهواء النَّاس وآراءهم، كما كان المنافقون {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَـؤُلاء وَلاَ إِلَى هَـؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً*} .
الهدى والضَّلال إذاً من الله، ولهما أسباب، الله أضلَّ الكافرين والمنافقين، وهدى المؤمنين الصَّالحين الموحِّدين، وبيَّن سبحانه أنَّ ذلك منه -سبحانه- حكمة منه، فقال جلَّ وعلا: {يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ} ، وقال جلَّ وعلا: {وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} ، يبَّن جلَّ وعلا أنَّ الهداية لها نور، وأنَّ هذا النُّور منَّةٌ ومنحةٌ من الله جلَّ وعلا، فمن لم يعطه الله هذه المنحة فأنَّى له أنْ يهتدي، فقال سبحانه: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ*} … أنَّى يهتدي بغير نور من الله! بنور عقله يهتدي؟!
العقل! أوصل الكافرين إلى الكفر، العقل قد يوصل المؤمنين إلى الإيمان، ولكنَّ العقل إذا جرِّد… إذا جرِّد عن الفطرة السَّليمة، وعن المنطق السَّليم الَّذي يظلِّله نور من الله، فإنَّه يوصل إلى أسفل سافلين، الفلاسفة فكَّروا بعقولهم، ولكنْ وصلت بهم عقولهم تارةً إلى الإلحاد! وأخرى إلى الشِّرك! وثالثةً إلى وصف الله بما ليس من صفته! بعقولهم وصلوا إلى ذلك… {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ*}.
عقل العاقل هباء؛ عقل العاقل جنون؛ ما لم يكن سائراً بهدىً ونورٍ من الله سبحانه، عقول العاقلين تودي بهم إلى نتائج كارثيَّةٍ إذا لم تكن تمشي بنور هدايةٍ من الله.
بيَّن الله جلَّ وعلا أنَّ الهداية والإضلال منه، ولكنْ لهما أسباب، أوَّل أسباب الهداية:
الصِّدق مع النَّفس.
والتَّواضع للحقِّ.
والنَّظر إلى الخالق سبحانه.
وانعدام النَّظر إلى سواه.
المؤمنون الأوائل كانوا هكذا، يريدون الله وحده، يريدون وجهه، يعملون من أجله، ولا يرون غيره في الوجود، لا يرون لا أسرةً ولا عشيرةً، لا يرون لا وطناً ولا قبيلةً، لذلك سهَّل الله عليهم الوصول إلى الحقِّ، سهَّل الله عليهم معرفة طريق الهدى، لأنَّهم أرادوه وحده، فأوصلهم: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ*} ، جاهدوا في الله نفوسهم، جاهدوا في الله أهواءهم، جاهدوا في الله شهواتهم، وحظوظ أنفسهم الظَّاهرة والخفيَّة، فهداهم الله سبيل الرَّشاد، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} ضحَّوا بكلِّ هوىً، وكلِّ حظِّ نفسٍ، فعرفوا الحقَّ.
وأمَّا المنافقون فقد أرادوا أنْ يكسبوا الاثنين معاً، أرادوا أنْ يكسبوا الله ولا يخسروا النَّاس، أرادوا أنْ يكسبوا الآخرة ولا يخسروا الدُّنيا، أرادوا أنْ يكونوا عند الله مؤمنين، وعند النَّاس وجهاء… على اختلاف النَّاس، أرادوا أنْ يكونوا عند كل النَّاس أصحاباً، فلم يكنْ لهم أعداء، هذا في الظَّاهر، وإذا رأيت الرَّجل ليس له أعداء فاتَّهمه… أو الأحرى أنْ نقول: (إذا رأيت نفسك ليس لك أعداء فاتَّهم نفسك)، لأنَّ المنافق هو الَّذي يبذل كلَّ شيءٍ حتَّى لا يكون له أعداء، حتَّى إنَّه يبذل مبدأه! ويبذل اعتقاده! ويبذل مُثُله! حتَّى لا يكون له أعداء… يرضي النَّاس، كلَّ النَّاس، ويريد أنْ يكون كلُّ النَّاس معتقدين به… حتَّى ولو اضطر لتغيير مبادئه مع بعض هؤلاء النَّاس!
هكذا فعل المنافقون، لئلَّا يكون لهم أعداء، فأرضوا الكافرين! وأرضوا المؤمنين! هذا في الظَّاهر… وفي حقيقة الأمر لا هم من هؤلاء ولا هم من هؤلاء، والفريقان بريءٌ من المنافقين، ولا يرضى أن يحسبوا عليه.
لذلك أيُّها الأحبَّة، لا بدَّ أنْ نضع الله وحده نصب أعيننا، وأنْ نسعى إلى رضاه وحده، وألَّا نفكِّر في النَّاس، عندما نبحث عن الله، لئلَّا يكون النَّاس عوائق بيننا وبين الله، ولئلَّا يحول النَّاس دون وصولنا إلى الحقِّ، دون وصولنا إلى المعرفة، دون وصولنا إلى الله سبحانه وتعالى.
يقول ذو النُّون المصري رحمة الله عليه: (إنَّك لن تبلغ منزلة الإخلاص إلَّا بثلاث، علامات الإخلاص ثلاث: نسيان رؤية العمل في العمل) أيّ ألَّا ترى عندما تعمل أنَّك عملت، إنَّما ترى أنَّ الله وفَّقك، ألَّا ترى لنفسك فضلاً في ذات العمل، إنَّما ترى الفضل من الله في التَّوفيق للعمل… (نسيان رؤية العمل في العمل، ونسيان اقتضاء ثواب العمل في الآخرة…) عندما تعمل فلا تفكِّرُ في الثَّواب للعمل الصَّالح الَّذي تعمله؛ فهذا علامة إخلاص، على أنْ يكون هذا عادةً دائمةً لك، أنْ تعمل العمل بغضِّ النَّظر عن ثوابه الأخرويِّ، أنْ تعمل العمل فقط لأنَّه يرضي الله، فقط لأنَّ الله أمر به… بغض النَّظر عن جزائه في الآخرة، هذه العلامة الثَّانية، أمَّا العلامة الثَّالثة: (أنْ يصير مدح النَّاس وذمُّهم عندك سواءً).
وهذا أمرٌ قد يختلط على أصحاب بعض العقول! لذلك تراه يفسد ويسيء! فيذمُّه النَّاس الصَّالحون ذمَّاً في موضعه… فيقول: (أنا لا أتأثَّر بهم صار مدح النَّاس وذمهم عندي سواءً)!، لا! هذه هنا ليست علامة إخلاص، هذه علامة غرورٍ وحمقٍ وغباءٍ… إنَّما إذا أشار النَّاس عليك بالحقِّ اتبعته، ما دام يوافق الشَّرع، وأمَّا بعد أنْ تتَّبع الشَّرع الواضح البيِّن، وتتَّبع ما يمليه عليك نداء فطرتك… عندها ينبغي أنْ يصير مدح النَّاس وذمهم عندك سواءً.
فرقٌ بين النَّصيحة المبنيَّة على حبٍّ وإخلاصٍ وفهمٍ لبواطن الأمور… وبين الذَّم الَّذي يكون مبنيَّا إمَّا على بغضٍ وكيدٍ، وإمَّا على جهلٍ ومحدوديَّةٍ في النَّظر… ففي هذه الحالة يصير الذَّم لا قيمة له، ويصير المسلم غير متأثِّرٍ به، ما دام وصوله إلى الله متأكِّداً من هذا الطَّريق.
هكذا كان المسلمون الأوائل بخلاف المنافقين، المنافقون كانوا: {مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ}، {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ} لماذا؟ لأنَّهم لا يريدون أنْ يربُّوا عداوات! لذلك يكونون مع المؤمنين كما يرضى المؤمنون! فإذا انصرفوا إلى غيرهم كانوا كما يرضى غيرهم…! لئلَّا يربُّوا عداوة.
وأمَّا المؤمنون فقد كانوا ظاهرهم مثل باطنهم، وقد كانوا سريرتهم مثل علانيتهم، وخلوتهم مثل جلوتهم، ولا فرق عندهم بين حالٍ وحالٍ، فالمبدأ الَّذي يحملونه يظهرونه، والمبدأ الَّذي يظهرونه أمام هؤلاء يظهرونه أمام أولائك، ولا يتحرَّجون، ولا يخجلون، ولا يخافون ذمَّاً؛ لأنَّ مدح النَّاس وذمَّهم عندهم سواءً، لأنَّهم يعبدون الله ولا يعبدون النَّاس، يعبدون إلهاً واحداً، فلا يقدِّسون آراء زيدٍ وعمرٍو، وأهواء المجتمع بأسره، لأنَّ الله هو الَّذي سيحاسبهم، والله هو الَّذي يعلم سرائرهم، ويعلم صدقهم من عدمه، وإخلاصهم من عدمه، هو سبحانه وحده الَّذي يعلم حقائق بواطنهم.
أيُّها الأحبَّة إنَّ الَّذي يعبد الله وحده عبادةً حقَّةً يحمل في داخله توحيداً، ويظهر هذا التَّوحيد على ملكاته وجوارحه كلِّها، فتراه لا يرى غير الله، ولا يسمع إلَّا نداء الله، ولا يعمل إلَّا من أجل الله، فكان الله سمعه الَّذي يسمع به، وبصره الَّذي يبصر به، ويده الَّتي يبطش بها، ورجله الَّتي يمشي بها.
هذا أيُّها الأحبَّة لا نصل إليه إلَّا بترك عبادة غير الله، وتقديس غير الله، والنَّظر إلى غير الله، اللَّهمَّ لا توجِّه قلوبنا إلَّا إليك، توجُّه القلب إلى غير الله مفاسده كبيرة، يقلب الحقَّ باطلاً والباطل حقَّاً، بناءً على حظوظ النَّفس، توجُّه القلب إلى غير الله ينمُّ من النَّاحية النَّفسيَّة عن ضعفٍ في الشَّخصيَّة، هذا الضَّعف في الشَّخصيَّة يُعبَّر عنه بالغرور الظَّاهر، وينمُّ من النَّاحية الإيمانيَّة عن ضعف في الإخلاص، ضعف الإخلاص يعبر عنه ظاهراً بالرِّياء والعمل من أجل غير الله سبحانه وتعالى…
التَّوحيد: كلمةٌ جامعةٌ لكلِّ أشكال إخلاص الله بالعبادة، التَّوحيد ترك عبادة الأصنام، وترك عبادة الأجسام، وترك عبادة الأجرام، والتَّوحيد ترك التَّوجُّه إلى كل مخلوقٍ، والتَّوجُّه إلى الله الخالق وحده، التَّوحيد هو النَّظر إلى الحقِّ الواجب الوجود، وقطع النَّظر عن جائز الوجود، الَّذين يوجدون اليوم ويعدمون غداً.
الله سبحانه حكيم يعطي ويمنع بحكمة، لذلك إنْ توجَّهت إليه توجَّهت إلى مَنْ لا يظلم، وأمَّا النَّاس فإنَّهم يكونون تارةً يميناً وأخرى شمالاً، فإنْ توجَّهت إليهم فأرضيتهم اليوم غضبوا عليك غداً، وإنْ لم تغيِّر حالك!
النَّاس ليس لهم قاعدة في التَّفكير، عموم المجتمع يفكِّر تفكيراً لا منطقيَّاً، بغير هدىً من الله في الغالب، فإنْ أرضيتهم رضوا عنك، ثمَّ بعد قليل يغضبون عنك وحتَّى ولو لم تغضبهم!
وأمَّا الله فإنَّه، لا يظلم، بل إنَّه العدل اللَّطيف الخبير، الَّذي لا يغيِّر حاله معك ما لم تغيِّر حالك، والَّذي لا يمنعك فضلا أعطاك إياه بعمل صالح عملته إذا لم تغيِّر صالحك…
النَّاس غير ذلك إنْ سعيت إلى إرضائهم اليوم غضبوا عليك غداً، فكيف تعبد من لا أمان له؟! وكيف توجِّه قلبك إلى من يرضى ويغضب دون ضابط؟! وبغير مقدار؟! وكيف تحاول أن تستميل النَّاس وتكون كما يرضى النَّاس؛ والنَّاس ليس لهم قاعدةٌ وليس لهم ضابطٌ في معاملتك؟!
وجه قلبك إلى الله وحده، لأنَّك إن توجهت إليه كنت على طمأنينةٍ وثقةٍ بأنَّه سبحانه لا يظلمك، وما دمت على إخلاصك يدوم الله على نعمته عليك، وما دمت على استقامتك يدوم الله على تفضله عليك، فإن غيَّرت حالك غيَّر حاله معك، وإن لم تغيِّر لم يغيِّر {ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ} …
كنت تشعر بالسَّكينة والطُّمأنينة لأنَّك تعبد الله وحده، صرت تشعر بالتَّخبُّط، إذاً لا بدَّ أنَّك غيَّرت ما في نفسك، فغيَّر الله نفسيَّتك، كنت تعبده وحده فأنعم عليك بالطُّمأنية والسَّكينة، فصرت تعبد غيره، وتتوجَّه إلى غيره… فتخبَّطت، صرت تفكِّر في معبودات أخر، قد تعبد نفسك، وقد تعبد مجتمعك، وقد تعبد أشياء وأشياء لا تخطر ببال، لذلك لن يبقي الله سكينتك وطمأنينتك، لأنَّك غيَّرت ما في نفسك، فيغيِّر الله نعمته عليك، {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ*}.
الإخلاص سرٌّ باطنٌ عجيبٌ، لا يصله إلَّا من أوصله الله إليه، ولا يوصل الله إليه إلَّا من صدق في طلبه، فمن صدق في طلب الإخلاص ووضع وراء ظهره كلَّ ما سوى الله، أوصله الله إلى الإخلاص، وأنعم عليه بهذه النِّعمة العظمى في الدُّنيا الَّتي توصل إلى أعظم النِّعم في الآخرة، وبدون الإخلاص النِّعمة العظمى في الدُّنيا لا يصل واصلٌ إلى نعم الآخرة… إنَّ الله لا يقبل من العمل إلَّا ما كان خالصاً لوجهه…
نسأل الله أن يجعلنا ممَّن يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه، أقول هذا القول وأستغفر الله.
الحمد لله حمداً كثيراً كما أمر، وأشهد أنْ لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، إقراراً بوحدانيَّته وإرغاماً لمن جَحَدَ به وكفر، وأشهد أنَّ سيَّدنا محمَّداً عبده ورسوله الشَّفيع المُشَفَّعُ في المحشر، ما اتصلت عينٌ بنظرٍ ووَعَت أُذُنٌ لخبر.
أُوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله، وأحثُّكم وإيَّاي على طاعته، وأحذِّرُكم وَبال عصيانه ومخالفةِ أمره، واعلموا أنَّه لا يضُرُّ ولا ينفعُ ولا يصِلُ ولا يقطعُ ولا يعطي ولا يمنعُ ولا يخفضُ ولا يرفعُ ولا يفرِّقُ ولا يجمعُ إلَّا الله، واعلموا أن الله أمركم بأمرٍ بدأه بنفسه وثنَّى بملائكة قدسه فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا*} اللَّهمَّ صلِّ على سيِّدنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وسلِّم.
اللَّهمَّ أيِّد الإسلام وأعِزَّ المسلمين، وأعلِ وانصُر كلمة الحقِّ والدِّين، اللَّهمَّ من أراد بالإسلام والمسلمين خيراً فوفِّقه إليه، ومن أراد بهم سوءً فاجعل دائرة السَّوء عليه، اللَّهمَّ رُدَّنا إلى دينك ردَّاً جميلاً، اللَّهمَّ لا توجِّه قلوبنا إلَّا إليك، ولا تجعل اعتمادنا إلَّا عليك، يا واصل المنقطعين أوصلنا إليك، ولا تقطعنا بالأغيار عنك، اللَّهم إنَّك عفوٌّ تحبُّ العفو فاعف عنَّا، واغفر اللَّهمَّ للمسلمين والمسلمات، المؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميعٌ قريبٌ مجيب الدَّعوات، والحمد لله ربِّ العالمين.
عباد الله:
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ*} .

الملفات الصوتية
الملف الأول1.94 MB
الملفات النصية
الملف الأول77.5 KB
أرسل هذه الصفحة إلى صديق
اسمك
بريدك الإلكتروني
بريد صديقك
رسالة مختصرة


المواضيع المختارة
مختارات

[حسن الظن بالله]

حسن الظن بالله يعني أن يعمل العبد عملاً صالحاً ثم يرجو قبوله من الله تعالى ، وأن يتوب العبد إلى الله تعالى من ذنب عمله ثم يرجو قبول الله تعالى لتوبته ، حسن الظن بالله هو ذاك الظن الجميل الذي يأتي بعد الفعل الجميل.
يقول النبي عليه الصلاة والسلام : {لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى.}
قال سبحانه في الحديث القدسي :{ أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني } أنا عند ظن عبدي بي فإذا ظننت أنه يرحمك وأخذت بأسباب الرحمة فسوف يرحمك ، وأما إن يئست من رحمته وقصرت في طلب أسبابها فإنه لن يعطيك هذه الرحمة لأنك حكمت على نفسك والله تعالى سيحكم عليك بما حكمت أنت على نفسك .