التوحيد > الدّرس الثّاني: (نشوء مذاهب أهل التّوحيد، وسبب نشوء علم الكلام)
الدّرس الثّاني: (نشوء مذاهب أهل التّوحيد، وسبب نشوء علم الكلام)

التّوحيد مفروضٌ فرضاً عينيّاً على كلّ مسلم؛ على أنّه العلم بوحدانية الله ذاتاً وصفاتٍ وأفعالاً، والعلم بمسائل التّوحيد وأدلتها الإجماليّة، وهو مفروضٌ فرضاً كفائيّاً على جماعة من المسلمين؛ على أنّه علمٌ يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية، والرّدَّ على انحرافات المنحرفين في العقيدة عن مذهب السّلف وأهل السّنّة، إذاً فالتّوحيد مجملٌ ومفصّل، وكانت أحوال المسلمين في الأجيال الأولى لا تقتضي منهم غير التّوحيد المجمل، لأنّهم مؤمنون بالله تعالى إيمان تسليمٍ، ولا مجال لنقاش هذه الأمور المسلّمة...

الدّرس الثّاني: (نشوء مذاهب أهل التّوحيد، وسبب نشوء علم الكلام):
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله ربّ العالمين، وأفضل الصّلاة وأتمّ التّسليم على سيّدنا محمّد وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللّهمّ لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللّهمّ لك الحمد ملء السّماوات وملء الأرض، وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيءٍ بعد، ربّنا لك الحمد حمداً كثيراً طيّباً مباركاً فيه، لك الحمد حمد الشّاكرين وحمد الذّاكرين وحمد عبادك الصّالحين، اللّهمّ تبرّأنا إليك من أنفسنا ولجأنا إليك، لا توجّه قلوبنا إلاّ إليك، ولا تجعل اعتمادنا إلاّ عليك، اللّهمّ تبرّأنا إليك من حولنا وعلمنا وقوتنا، ولجأنا إلى حولك وعلمك وقوتك، فإنّك أنت القويّ ونحن الضّعفاء، وإنّك أنت الغنيّ ونحن الفقراء، وإنّك أنت العزيز ونحن الأذلاّء، وإنّك أنت القدير ونحن العاجزون، وإنّك أنت العليم ونحن الجاهلون، وإنّك أنت علاّم الغيوب. ربّنا لا تكلنا إلى أنفسنا ولا إلى غيرك طرفة عينٍ ولا أقلّ من ذلك، وأصلح لنا شأننا كلّه في الدّين والدّنيا والآخرة، اللّهمّ أرنا الحقّ حقّاً وارزقنا اتباعه وحبّبنا فيه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه وكرّهنا فيه، ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمةً إنّك أنت الوهَّاب. اللّهمّ اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أعمارنا أواخرها، وخير أيامنا يوم نلقاك. اللّهمّ أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفّنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا. اللّهمّ أصلح لنا ديننا الّذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا الّتي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا الّتي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كلّ خير، واجعل الموت راحةً لنا من كلّ شرّ، اللّهمّ بفيضك العميم عمّنا واكفنا اللّهمّ شرّ ما أهمنا وأغمَّنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسّنّة جمعاً توفّنا، نلقاك اللّهمّ وأنت راضٍ عنا، نلقاك اللّهمّ وأنت راضٍ عنا، نلقاك اللّهمّ وأنت راضٍ عنا. اللّهمّ صلّ على سيّدنا محمّدٍ الفاتح لما أغلق والخاتم لما سبق والنّاصر الحقّ بالحقّ والهادي إلى صراطك المستقيم، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً كثيراً، والحمد لله ربّ العالمين.
التّوحيد مفروضٌ فرضاً عينيّاً على كلّ مسلم؛ على أنّه العلم بوحدانية الله ذاتاً وصفاتٍ وأفعالاً، والعلم بمسائل التّوحيد وأدلتها الإجماليّة، وهو مفروضٌ فرضاً كفائيّاً على جماعة من المسلمين؛ على أنّه علمٌ يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية، والرّدَّ على انحرافات المنحرفين في العقيدة عن مذهب السّلف وأهل السّنّة، إذاً فالتّوحيد مجملٌ ومفصّل، وكانت أحوال المسلمين في الأجيال الأولى لا تقتضي منهم غير التّوحيد المجمل، لأنّهم مؤمنون بالله تعالى إيمان تسليمٍ، ولا مجال لنقاش هذه الأمور المسلّمة، وما من مشبّهين، وما من مغرضين، ومن أصحاب فتن يستوجبون أن يردَّ عليهم فالكلّ في ذلك الوقت مؤمنون مسلّمون منقادون مستسلمون، لذلك فقد كان التّوحيد عندهم توحيداً مجملاً، ليس هناك أدلةٌ عقليّةٌ وليست هناك شبهاتٌ حتّى تردَّ ردَّاً فلسفيّاً منطقيّاً عقلانيّاً.
لذلك فقد تحرّج السّلف الصّالح من الخوض في أمور العقيدة، لأنّه لم يكن لذلك داعٍ في ذلك الوقت، فهاهو ذا الإمام الشّافعيّ رحمة الله عليه يأتيه تلميذه وهو من عظماء تلاميذه الرّبيع بن سليمان فيقول له: يا إمام مسألةٌ في التّوحيد عرضت لي فجئتك أسأل عنها. قال: يا ربيع مسألةٌ في التّوحيد؟! قال: نعم. قال: يا ربيع أتعلم أين نحن؟ نحن في مصر الّتي أغرق الله فيها فرعون، كيف تجرؤ على أن تسأل في التّوحيد، وتسأل عن الله تعالى؟! يا ربيع نجم تراه بعينك في السّماء أتعلم أصله ومنتهاه؟ من أين جاء وإلى أين يذهب؟ ومن أيّ شيء هو؟ قال: لا. قال: شيءٌ تراه بعينك من الخلق لا تعرف حقيقته تسأل عن الخالق؟! يا ربيع أسألك مسألةً في الصّلاة. فسأله فما عرف جوابه، قال: أسألك مسألةً في الوضوء. فسأله فما عرف جوابه، ففرعها له أربعة فروع فلم يعرف شيئاً منها، قال: يا ربيع شيءٌ تحتاج إليه في اليوم خمس مرات لا تعرفه تسأل عن الخالق؟! قل كما قال: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ } .
إذاً كان إيمانهم إيمان تسليمٍ لا نقاش، وإيمان قناعةٍ لا إيمان منطق، فالقناعة كانت قناعةً قلبيّةً لا قناعة عقليّة، وبقي في المسلمين فئةٌ من هؤلاء إلى أزمنةٍ متأخرةٍ بل إلى هذا الزّمان، ولا يطلب منهم من بسطاء المسلمين وعوامِّهم إلا أن يؤمنوا بالله الإيمان المجمل، لأنّ الحجاج عن العقائد وردَّ الشّبهات هذا فرض كفايةٍ كما قلت، موكلٌ إلى فئةٍ من المسلمين لا إلى جميع المسلمين، لذلك لمّا دخل الفخر الرّازي ( وقيل غيره ) بلدةً، وقامت هذه البلدة ولم تقعد إجلالاً له وتوقيراً وتبجيلاً، خرج النّاس كباراً وصغاراً، شيباً وشباباً يستقبلونه، قالت امرأةٌ من القوم: ما الخبر؟ فقالوا لها: هذا الفخر الرّازي دخل بلدتنا. قالت: ومن الرّازي؟ قالوا لها: هذا عالمٌ جليل لقد وضع ألفَ دليلٍ على وجود الله. قالت: ألف دليلٍ على وجود الله؟! وهل الله محتاجٌ إلى ألف دليل؟! لو لم يكن عنده ألف شكٍّ لما وضع ألف دليل! ووصل الخبر إلى الفخر الرّازي إنّ المرأة تقول: لو لم يكن عنده ألف شكّ لما وضع ألف دليل! فقال: اللّهم إيماناً كإيمان العجائز..
فعموم المسلمين إذاً غير محتاجين إلى أدلّةٍ وإلى منطقٍ وإلى فلسفةٍ للعقائد حتّى يقتنعوا بها، بل إنّ كلّ المسلمين غير محتاجين لذلك لم يكن لعلم التّوحيد وجودٌ في العصور الأولى، لأنّه لم تكن هنالك فتنٌ وشبهات، فلمَّا ظهرت الفتن ولما ظهر أصحاب الفتن احتاج الأمر أن يتصدى لهم بعض المسلمين ليردّوا شبهات المشبّهين، عندها نشأ علم التّوحيد وعندها نشأ علم الكلام، فالتّوحيد في الأصل هو: العلم بأنّ الشّيء واحد. هذا من حيث اللّغة، وأمّا من حيث الاصطلاح فإنّ التّوحيد هو: إفراد المعبود بالعبادة، وهو تنزيه الله تعالى عن كلّ ما يُتصور في الأفهام ويُتخيل في الأوهام. تنزيه الله تعالى تنزيه الذّات الإلهية عن كلّ ما يُتصور في الأفهام ويُتخيل في الأوهام. وأمّا علم التّوحيد بمعنى العلم المدّون وهو الّذي يطلق عليه علم الكلام فهو: علمٌ يتضمن الحجاج عن العقائد الدّينيّة الإيمانيّة بالأدلة العقليّة، وردَّ انحراف المنحرفين في الاعتقاد عن مذهب السّلف وأهل السّنّة. هذا العلم إذاً كان ردَّاً، كان ردَّ فعل ولم يكن فعلاً، فلولا الشّبهات والبدع المنكرات، ولولا الفتن لما خرج شيءٌ اسمه علم التّوحيد، ظهر من الفتن في ذلك العصر الكثير منها: فتنة الخوارج، ومنها فتنة الشّيعة، ومنها فتنة المعتزلة، ومنها فتنة المرجئة، والقدريّة، والجبريّة، والجُهميّة، وغيرهم كثير. فاختلطت الأفكار على عوامّ المسلمين وصاروا يخلطون بين الحقّ والباطل، فكلٌّ يلحن بحجته وكلٌّ يدافع عن مبدئه دفاعاً مستميتاً، حتّى لتخال أنّه الحق الأعظم عندما تستمع إليه، فإذا استمعت إلى الآخر بطل عندك رأي الأوّل وثبت عندك رأي الآخر، فإذا استمعت إلى رأيٍ ثالث بطل عندك الرّأيان الأوّلاّن ورأيت الرّأي الثّالث هو الحقّ وحده وما سواه باطل، اختلطت الأمور، وصار أصحاب البدع هذه وأصحاب المذاهب هذه يبذلون كلّ جهدٍ في الانتصار لبدعهم ولمذاهبهم، فخرج عندها من أهل السّنّة علماء يضعون أصول التّوحيد، الّذي لم يغب لحظةً واحدة عن حيّز الاعتقاد، إذاً من عهد النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام هناك توحيدٌ خالصٌ صادق، ولكن لم يكن معبراً عنه بالتّصنيف وبالحجاج وبالخطب وبالدّروس، إنّما كان اعتقاداً، فلمّا صار أصحاب البدع ينحرفون في اعتقادهم، ثم يعبّرون عن هذا الانحراف بالمصنفات وبالخطب والحجاج والدّروس، نقل المسلمون من أهل السّنّة اعتقادهم الصّادق الخالص الصّحيح من حيّز الاعتقاد إلى حيّز الطّرح النّظري، إلى حيّز التّصنيف، إلى حيّز المحاجَّة والمجادلة، إلى حيّز الخطابة والنّشر، فهو إذاً موجودٌ من الأصل، إنّما قام أهل السّنّة بوظيفة النّقل من الحيّز الاعتقاديّ إلى الحيّز التّنظيريّ، بدعة الخوارج وبدعة الشّيعة كانتا بدعتين متضادتين، وكانتا متقاربتين في الزّمان، وتكاد هاتان البدعتان تكونان من أوائل البدع الاعتقاديّة ظهوراً، لهذا فقد قالوا: ( بمقتل عثمان بن عفان رضوان الله عليه فتح باب الفتنة الّذي لا يسدُّ إلى يوم القيامة ). أما الفتنة الّتي كانت اقتتالاً وحروباً فقد انتهت، وأما الفتنة الّتي تكون في انقسام المسلمين فكريّاً إلى طوائف ومذاهب وعقائد فلا تزال إلى الآن ماثلة، فبمقتل عثمان انقسم النّاس إلى مناصرين لرأي العثمانيين ممثلين بمعاوية رضوان الله عليه، وسائر بني أمية، و بعائشة رضوان الله عليها، و طلحة والزّبير، وإلى علويّين ممثلين بأنصار سيّدنا عليّ رضوان الله عليه، أما الطّائفة الأولى فقد أرادوا أن يأخذوا بثأر عثمان ويقتلوا قتلته، وأما الطّائفة الثّانية فقد رأوا أن يحقنوا الدّماء الآن، وأن يُطفئوا نار الفتنة إلى أن تهدأ الأوضاع ثم بعد ذلك يبحثون عن دم عثمان، عندها توسَّعت الشّقّة وازدادت الهوّة بين الفريقين فكانت معركة صفّين وكانت معركة الجمل، وكانت الانقسامات الصّارخة بين الطّوائف المختلفة، الخوارج والشّيعة: الطّائفتان المتعلقتان بعليّ رضوان الله عليه، أما الشّيعة فقد غالَوا في حبّ عليّ وأما الخوارج فقد غالَوا في بغض عليّ، الخوارج أبغضوا وغالَوا في بغضهم، والشّيعة أحبّوا وغالَوا في حبّهم، فالشّيعة والخوارج إذاً على طرفي نقيض، فظهور بدعتي التّشيِّع والخروج كان في وقتٍ متقارب، لمَّا قدم عليٌّ رضوان الله عليه إلى الكوفة، وغيّر عاصمة الدّولة الإسلامية من المدينة المنورة إلى الكوفة - وذلك لكثرة أنصاره هناك - خرج الخوارج واعترضوا عليه، وبخاصّةٍ عندما قبل بالتّحكيم بينه وبين سيّدنا معاوية، واختير من طرف سيّدنا عليّ: أبو موسى الأشعريّ، ومن طرف سيّدنا معاوية: عمرو بن العاص، فإذا بالخوارج يخرجون يومها، ويُسمَّون الحروريّة، خرج الحروريّة يومها واتهموا عليّاً رضوان الله عليه بالكفر، كفّروه وأخرجوه من الملّة، ودخلوا مسجد الكوفة وهو واقفٌ على المنبر يخطب، ونادوا: فزعتَ من البلية، ورضيتَ بالقضية، وقبلتِ بالدّنية، لا حكم إلاّ لله. جزعت من البلية، ورضيت بالقضية، وقبلت بالدّنية، لا حكم إلاّ لله. فيقول عليه رضوان الله تعالى: حكم الله انتظر فيكم، حكم الله انتظر فيكم. فيجيبونه: { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين * } ، فيجيبهم: { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُون * } ...
دخل عليه أحدهم يوماً وكان يخطب واقفاً على منبر الكوفة، فنادى بأعلى صوته: { وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ * } وأشار إلى سيّدنا عليّ. فأجاب عليّ رضوان الله عليه: كلمة حقٍّ أريد بها باطل. كلمة حقٍّ أريد بها باطل. إذاً كفّر الخوارج عليّاً رضوان الله عليه، فلا عجب إذاً أن يكفّروا معاوية ويكفّروا عمرو بن العاص، وأن يكفّروا من دخل مع أيّ من الفريقين.. فقط الّذي اعتزل الفريقين كان عندهم ناجياً من الكفر.
وأمّا قولنا: فإنّ الطّوائف الثّلاثة مأجورة، من كان في صفّ عليّ رضوان الله عليه - وبخاصّة في المعارك - ومن كان في صفّ معاوية رضوان الله عليه، ومن اعتزل الفريقين فلم يقاتل مع هذا ولا مع ذاك، ولكن الأصوب من الثّلاثة: من قاتل مع عليّ، في الدّرجة الثّانية: الّذي اعتزل، وفي الدّرجة الثّالثة: الّذي قاتل مع معاوية.
أمّا أنّ الّذي قاتل مع عليّ أصوب من الّذي قاتل مع معاوية: فلأنّ خلافة عليّ انعقدت، فمن خرج عليه فهو باغٍ يجب قتاله لقول الله تعالى: { فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ } فهم مؤمنون ولكنّهم بغاةٌ يجب قتالهم، يدلّ على ذلك أنّ في جيش عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليه: عمّار بن ياسر رضي الله عنهما، وأنّه في معركة صفّين قُتل، وقد قال النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام: [ ويح عمار تقتله الفئة الباغية ]، فعُلم أنّ فئة معاوية رضي الله عنه باغيةٌ؛ ولا يعني البغي الكفر؛ البغي هو الاعتداء قال: { فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا } يعني إحدى الطّائفتين المؤمنتين، معنى ذلك: البغي لم ينزع عن الباغي صفة الإيمان، فالأفضل إذاً من قاتل مع عليّ لأنّه مَبغِيٌ عليه.
والأقلّ فضلاً من قاتل مع معاوية لأنّه باغٍ، وبينهما من لم يَبغِ ولم يُبغَ عليه.
وأمّا الخوارج فقد كفّروا الفريقين، كفّروا عليّاً ومعاوية ومن قاتل معهما، لذلك رأوا أن يقتلوا رؤوس الكفر في نظرهم - قاتلهم الله - فأرسلوا إلى عليّ وإلى معاوية وإلى عَمرٍو من يقتلهم، فأمّا عَمْرٌو فما خرج إلى صلاة الفجر يومها، وأمّا معاوية عليه رضوان الله فقد أصيب ولم يمت، وأمّا عليّ رضوان الله عليه فقد أصيب وقتل على يد الملعون أخزاه الله: عبد الرّحمن بن ملجم المراديّ التّجيبيّ، الّذي قتل عليّاً رضوان الله عليه تنفيذاً للخطّة المرسومة من ناحية، ودفعاً لمهر تلك الفاجرة من ناحية أخرى، كانت رأساً من رؤوس الخروج ( رؤوس الخوارج ) في الكوفة طلبت منه مهراً لها حتّى تزوجه نفسها: قتل عليّ بن أبي طالب!!.
وظنّوا أنّهم بذلك يتقربون إلى الله!، وكانوا يُصلّون صلاةً طويلةً متقنةً خاشعة، والسنتهم لا تفتر عن ذكر الله تعالى.. فصدق فيهم قول النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام عندما كان يقسم الغنائم فخرج من النّاس رجلٌ يقال له ذو الخويصرة وقال له: اعدل يا رسول الله هذه قسمةٌ ما أريد بها وجه الله، اعدل. قال: [ ويحك! من يعدل إن لم أعدل؟! ] ثم قال عليه الصّلاة والسّلام: [ يخرج من ضئضئ هذا أقوامٌ تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وقرآنكم مع قرآنهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السّهم من الرّمية، تنظر في القدح فلا ترى شيئاً، وتنظر في النّصل فلا ترى شيئاً]
وهكذا كان الخوارج ذريّة ذو الخويصرة، صلاتهم قرآنهم عبادتهم على أعلى المستويات، وأمّا إيمانهم وفكرهم فإنّه أفسد ما يكون، لمّا جِيء بعبد الرّحمن بن ملجم ( قبض عليه وجِيء به ليقتل ) كان لسانه لا يفتر عن ذكر الله، يظنّ أنّه تقرّب إلى الله بقتل سيّدنا عليّ رضوان الله تعالى عليه، إذاً حملوا فكراً متطرّفاً.
فمن أفكار هذه الطّائفة ( الأفكار الشّاذة ) أنّهم قالوا: لا تنعقد إمامة الإمام ( يعني الخليفة الأعظم ) إلا ببيعة عامّة مطلقة من كلّ المسلمين لا من طائفة منهم، لذلك لم يعدّوا بيعة عليّ صحيحة لأنّ المسلمين لم يجمعوا عليها، ومن ذلك أنّهم قالوا: لا يشترط في الإمام الأعظم أن يكون قرشيّاً أو غير قرشيّ، عربيّاً أو أعجميّاً، كلّ ذلك يجوز. مع أن النّص قد جاء عن النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام: [ الأئمّة من قريش ]... وهذا ما حملهم على أن يجعلوا خليفة لهم واحداً آخر غير الخلفاء الموضوعين ( لا عليّ ولا معاوية ولا غيرهم ) وضعوا خليفة لهم ولقبّوه أمير المؤمنين « إلهن دولة »!! إذاً دولة مستقلة خاصّة بهم، بل وأجاز هؤلاء القوم أيضاً ألا يكون للمسلمين إمام أصلاً « ما في إمام ما في إمام إيش المشكلة ما في خليفة للمسلمين »!! عندهم هذا الأمر ليس ضرورةً ملحّةً على الدّولة الإسلاميّة!!.
بالطّرف الآخر بعيداً عن الخوارج، وعلى الطّرف الآخر من طرفي النّقيض كان الشّيعة، الّذين غالَوا في حبّ سيّدنا عليّ والّذين خرجت منهم طوائف كافرة عبدت سيّدنا عليّ رضوان الله عليه وجعلته إلهاً، وروي أنّ منهم طائفةً خرجت في عهد سيّدنا عليّ، فلمّا خرج من باب كندة في الكوفة سجدوا له، قال: ويحكم ما تفعلون؟ قالوا: أنت الله. قال: ويحكم! إنّما أنا عبدٌ من عباد الله.. قالوا: بل أنت هو الله. قال: لأن لم تنتهوا لأُحرّقنكم. حفر لهم أخدوداً وأضرم النّيران فيه، وجعل يقذفهم في النّار وهم لا يتراجعون عن قولهم، فلمّا قذفهم في النّار قالوا: الآن علمنا أنّك أنت الله لأنّه لا يعذب بالنّار إلا الله. لعنة الله عليهم بلغوا من الكفر أقصى مبلغ، سواءٌ صحّت هذه الرّواية أم لم تصحّ فإنّ في الشّيعة من نعلم كفرهم، ومن نعلم عبادتهم لسيّدنا عليّ، واعتقادهم بأنّ ذات الله تحلّ في شخص إنسانٍ وإذا مات حلّت في شخص إنسانٍ آخر وهكذا، ونعلم كفر طائفةٍ أخرى ينكرون نبوّة النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام، ويقولون تاه الأمين جبريل عليه السّلام « خربط جاب النّبوة لسيّدنا محمّد كان لازم يجيبا لسيّدنا عليّ، إي اشقد كان عمرو سيّدنا عليّ؟! اشقد كان عمرو؟! كان عمرو عشر سنين! دي يجبلوا النّبوة لواحد عمرو عشر سنين؟! » إذاً هؤلاء كفرة كذلك، وأمّا الشّيعة الّذين يعدّون طائفة من المسلمين، ولا يُكَفَّرون لضلالهم فإنّهم طوائف كذلك، منهم الإماميّة ومنهم الزّيديّة ومنهم الكيسانيّة وغيرهم، وكلامنا عن هؤلاء لا عن الكفرة، لأنّنا نتكلّم الآن عن طوائف من المسلمين.
أجمعت الشّيعة على مسألةٍ أساسيّة جوهريّة عندهم هي: أنّ عليّاً رضوان الله عليه هو أولى النّاس بالخلافة؛ وعلى أنّه أولى من أبي بكر وأولى من عمر وأولى من عثمان، فمنهم من سبّ أبا بكر وعمر وعثمان، لعنة الله عليهم - على من سبّهم - ومنهم من لم يسبّهم إنّما قال: عليٌّ كان أولى بالخلافة، ولكن هم تولّوا الخلافة وانتهى الأمر مسألة تطوى.
ويُلحظ هنا أنّ التّشيع كانت بدايته سياسيّة، وكانت المسألة العظمى فيه سياسيّة، ومن بعد المسائل السّياسيّة ظهرت الخلافات الفقهية، وإلاّ لو اقتصر الأمر على الاختلافات الفقهية لكان الأمر محلولاً وهيِّناً ومقدوراً عليه، إذاً أجمعوا على أنّ الأولى بالخلافة عليّ رضوان الله عليه، ثمّ اختلفوا من الأولى بالخلافة من بعد عليّ؛ فقالت الإماميّة ( ويُسمّون الاثني عشريّة ويُسمّون الجعفريّة ) فتسمية الإماميّة والاثني عشريّة لاعتقادهم بوجود اثني عشر إماماً معصوماً بعد رسول الله عليه الصّلاة والسّلام! أوّلهم عليّ وآخرهم المهديّ المنتظر، الّذي يزعمون أنّه محمّد بن الحسن العسكريّ الّذي دخل السّرداب وهم ينتظرون خروجه!! ويُسمّون الجعفرية نسبة إلى جعفر الصّادق عليه السّلام، هؤلاء قالوا: إنّ الخلفاء والأئمّة من بعد عليّ رضوان الله عليه من نسل فاطمة بالنّص عليهم ( يعني كلّ واحدٍ ينص على الإمام الّذي بعده بإلهام الله تعالى ) وعندهم أنّ هؤلاء الأئمة معصومون، والإلهام الّذي يلهمون شبيه بالوحي! لأنّهم معصومون عصمةً مطلقةً عن الخطأ، إذاً قال الإماميّة: الأئمّة من بعد عليّ من ولد فاطمة بالنّص عليهم. وقال الزّيديّة وهم المنسوبون إلى زيد بن عليّ، وزيد بن عليّ هو عمُّ جعفر الصّادق، فجعفر الصّادق: ابن محمّد الباقر، بن عليّ زين العابدين، بن الحسين، ابن عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليهم أجمعين، وأمّا زيد فهو زيد بن عليّ زين العابدين، بن الحسين، بن عليّ بن أبي طالب، فزيد ومحمّدٌ الباقر أخوان، وجعفر الصّادق ابن محمّد الباقر، إذاً قال الزّيديّة: الأئمّة من بعد عليّ من ولد فاطمة، ولكن ليس بالنّصّ عليهم بل باختيار الشّيوخ، باختيار الشّيوخ، إذاً الشّيوخ من آل البيت هم الّذين يحدّدون أنّ فلاناً - من ولد فاطمة حصراً - هو أولى ولد فاطمة بالخلافة، فيخلّفونه ويجعلونه إماماً عليهم، وقال الكيسانيّة: إنَّ أولى النّاس بالخلافة من بعد عليّ وابنيه الحسن والحسين محمّد بن الحنفيّة. أخوهم غير الشّقيق أخوهم لأبيهم ( أخو الحسن والحسين لأبيهما من امرأة من بني حنيفة ) لذلك قيل له محمّد بن الحنفية، ولم يُقَل له محمّد بن عليّ لتمييزه عن نسل النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، لئلا يظنّ أنّه بن فاطمة فنسب إلى أمّه ولم ينسب إلى أبيه، فقالوا: أولى النّاس بالخلافة والإمامة بعد عليّ وابنيه محمّد بن الحنفية ثمّ نسله، وجعلوا إمامهم وخليفتهم كيسان هو مولى محمّد بن الحنفيّة، لذلك لقبّوا بالكيسانيّة نسبة إلى كيسان مولى محمّد بن الحنفيّة.
إذاً هذا هو أصل التّشيُّع، أصله سياسيّ يتعلّق بالإمامة العظمى بالخلافة ( نحن نسمّيها الخلافة وهم يسمّونها الإمامة ) والاختلاف بالألفاظ لا يضرّ، من بعد الاختلاف السّياسيّ ظهر الاختلاف الفقهيّ، كانت مبادئ الشّيعة كثيراً ما تختلف مع مبادئ السّنّة وكثيراً ما تتّفق، وإذا قارنا بين الشّيعة وأهل السّنّة، وبين الشّيعة والمعتزلة نجد اتفاقاً في بعض الأحيان بينهم وبين السّنّة واتّفاقاً في بعض الأحيان بينهم وبين المعتزلة، بل إنّ أصل المعتزلة فيما يُقال من الشّيعة، لذا فقد رأينا تقارباً في بعض المبادئ والأفكار بين المعتزلة والشّيعة، إذاً هاتان هما الطّائفتان العظميان: الخوارج والشّيعة في ذلك الوقت، ثم ظهرت المعتزلة، والمعتزلة طائفةٌ عظيمةٌ من حيث العدد، عظيمةٌ من حيث الحجج والإقناع، عظيمةٌ من حيث وصولها إلى سدّة الحكم وإلى الأئمّة السّياسيّين للمسلمين حيث استطاعوا من سدّة الحكم.
لماذا سُمُّوا بالمعتزلة؟ ففي ذلك أقوالٌ مختلفة، ممّا قيل في ذلك كما قال الواسطيّ وغيره: إنّ المعتزلة أصلهم من شيعة عليّ رضوان الله عليه، فلمّا استُشهد سيّدنا عليّ آلت الخلافة بعده إلى خامس الرّاشدين - كما يُلقّب في بعض الأحيان - خامس الخلفاء الرّاشدين الحسن بن عليّ رضوان الله عليهما، ولكنّ الحسن بن عليّ حقنناً للدّماء تنازل عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، فحقّق بذلك نبوءة المصطفى عليه الصّلاة والسّلام عندما قال: [ إن ابني هذا سيّد ولعلَّ الله أن يصلح به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين ] فأصلح الله بالحسن بين شيعة علي وشيعة معاوية عندما تنازل عن الخلافة، فلمّا تنازل الحسن عن الخلافة اعتزل هؤلاء القوم الحياة السّياسيّة، واعتزلوا النّاس واختلوا في مساجدهم يعبدون الله تعالى، فسمّوا لذلك بالمعتزلة لأنّهم اعتزلوا النّاس من بعد تنازل الحسن رضوان الله عليه عن الخلافة.
معنى ذلك: أنّ المعتزلة من هذا الوجه خيرٌ من الشّيعة، الشّيعة الّذين أصرّوا على مبدأهم رغم أنّ الحسن تنازل عن هذا المبدأ هم أصرّوا، أمّا المعتزلة إن صحت هذه الرّواية فإنّهم قد قبلوا بمبدأ الحسن الّذي تنازل عن الخلافة، فتنازلوا هم أيضاً عن الخوض في المعترك السّياسي.
والقول الآخر: إنّهم سُمّوا بالمعتزلة نسبة إلى واصل بن عطاء الّذي اعتزل مجلس الحسن البصري عليه رحمة الله، حيث دخل عليه رجل وكان واصل بن عطاء ( ويلقّب بالغزّال، وهو من مواليد سنة ثمانين للهجرة، وتوفي سنة مئة وواحد وثلاثين للهجرة ) كان يجلس في مجلس الحسن البصري ويداوم عليه، جاءه يوماً رجل ووقف في الحلقة وخاطب الحسن البصري، قال: يا إمام الدّين قد ظهرت فئةٌ يكفّرون مرتكب الكبيرة ويعدّون ارتكاب الكبيرة كفرٌ مخرجاً من الملّة ( وهؤلاء القوم هم طائفةٌ من الخوارج، طائفة من الخوارج، منهم الصّفريّة ومنهم غيرهم ) وظهرت طائفةٌ أخرى تقول لا يضرّ مع الإيمان ذنبٌ كما لا ينفع مع الكفر طاعة ( وهؤلاء هم المرجئة كما سوف نرى ) فما تقول أنت فيهم؟ فجعل الحسن البصري يتفكّر مليّاً قبل أن يجيب، فإذا بواصل بن عطاء يستبق الأحداث وقبل أن يجيب أستاذه يجيب هو قال: أنا أرى أنّ مرتكب الكبيرة لا مؤمنٌ مطلق ولا كافرٌ مطلق، وإنّما هو في منزلةٍ بين المنزلتين « اخترع شغلة جديدة » لا أنزلها الله ولا قالها النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام، ثم اعتزل حلقة الحسن البصري وذهب إلى اسطوانة في مسجد البصرة، وذهب معه بعض تلامذة الحسن أعجبهم رأيه وجعل يقرّر عليهم مبدأه الجديد، عندها قال الحسن البصري: اعتزلنا واصل. فسُمّي واصلٌ وأصحابه المعتزلة، إذاً هذا رأيٌ آخر من آراء العلماء في سبب تسميتهم بالمعتزلة.
وإن كنا نرى في كلمة المعتزلة ذمّاً فإن المعتزلة لا يلقّبون أنفسهم بهذا اللّقب، هم يُسمّون أنفسهم: أصحاب العدل والتّوحيد، وحتّى عندما يُلقّبون بالمعتزلة يقولون هذا مدح وليس ذمّاً: نحن اعتزلنا أصحاب الباطل واعتزلنا أهل الضّلال وانفردنا بحقنا وبهدانا. إذاً « ما بيرفضوا تسمية المعتزلة بيعتبروها مدح » ولكن هم لا يُسمّون أنفسهم المعتزلة؛ يُسمّون أنفسهم أصحاب العدل والتّوحيد.
المعتزلة تبنّوا آراء كثيرة اختلفوا فيها عن أهل السّنّة، وهي تندرج عموماً ضمن خمسة محاور، وهذه الآراء تبلورت وصقلت شيئاً فشيئاً جيلاً إثر جيل « يعني ما خرج رجل واحد » وضع الآراء كلّها والمحاور الخمسة أجمعها، إنّما صارت تتبلور شيئاً إثر شيء على أيدي أئمّتهم الّذين تبنّى كلّ واحدٍ منهم رأياً وقرّره لمن بعده فزاد الّذي بعده رأياً آخر وهكذا، وأئمّتهم المشهورون كُثر نذكر منهم على سبيل المثال بعضهم فمنهم: واصل بن عطاء هذا الّذي يلقّب بالغزّال، ومنهم أبو الهزيل العلاف، ومنهم بشر بن سعيد، ومنهم عمرو بن عبيد، ومنهم نشمة بن المعتمر، ومنهم شيخ الجاحظ النّظّام ( ابن سيَّار النّظّام ) لأن الجاحظ كان معتزلاً؛ بل وكان من غلاة المعتزلة فقد حارب أهل السّنّة، ومنهم، إذاً منهم كما قلت النّظّام هذا ومنهم ابن كيسان الأصم، أبو بكر عبد الرّحمن بن كيسان الأصم ومنهم أبو عليّ محمّد بن عبد الوهَّاب الجبّائيّ وهو شيخ أبي الحسن الأشعريّ رحمة الله تعالى عليه، إذاً كان مشايخ المعتزلة كُثراً، ولكن كما قلنا هناك أفذاذٌ منهم هم الّذين أخرجوا آرائهم.
فمحاور خمسة إذاً هي الّتي تجمع آراء المعتزلة الّتي خالفوا بها أهل السّنّة، سمّوها: التّوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر « البسمع هذه الكلمات بيقول يعني وين المشكلة » كلّنا موحّدون وكلّنا نقول بعدل الله تعالى، وكلّنا نقول بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وما إلى هنالك فأين الاختلاف؟ نحن متفقون على الكلمة ولكن نحن مختلفون في تأويلات الكلمة وتفاسيرها.
أولاً التّوحيد: قالوا: إنّ الله واحد. ونحن قلنا إنّ الله واحد. ولكن الفارق نحن قلنا إنّ الله واحدٌ بذاته وواحدٌ بصفاته وواحدٌ بأفعاله. أمّا المعتزلة فقد أنكروا صفات الله تعالى، قال: ليس لله صفات « إي طيب الله عليم » العلم من صفات الله تعالى « إي هنن » قالوا: هو عليم ولكن بغير علم، قديرٌ بغير قدرة، سميعٌ بغير سمع، بصيرٌ بغير بصر، قويٌّ بغير قوة « إي إيش هالحكي الفاضي » الّذي هو من باب السّفسطة اللّفظية « منين جابوا هذا الكلام؟! قالوا: إذا بننقول أنُّهُ الله له قدرة وقدرته قديمة صار في عنا قديمين صار هذا شرك مو توحيد » لذلك قالوا بخلق القرآن، كانت فتنةً عظيمة، فتنة خلق القرآن ثمرة من ثمرات مبدأ التّوحيد المزعوم عندهم « قال: الله واحد وقديم من الأزل شلون عب تقولوا القرآن قديم من الأزل صار في الله والقرآن » صار هناك قديمان، صار هذا شرك. أجاب عليهم أهل السّنّة: نحن لا نقول القرآن ذاتٌ والله ذات فيكون هناك ذاتان قديمتان، القرآن كلام الله، والكلام صفةٌ من صفات ذات الله، فإذا كانت الذّات قديمةً فصفاتها كذلك قديمة، الصّفات قائمةٌ بذات الله، فلا هي ذات الله ولا هي غير ذات الله، أما هم فقد قالوا: الصّفات هي ذات الذّات. هي ذات الذّات، ولم يقل أحد الصّفات غير الذّات « لأنُّهُ هذا بصير » شرك حتماً، نحن قلنا: الصّفات لا هي الذّات ولا هي غيرها، هم قالوا: الصّفات هي الذّات: فالله عليمٌ بعلمٍ هو هو أي علمه هو ذاته، وقديرٌ بقدرةٍ هي هو أي قدرته هي ذاته، وقويٌّ قوةً هي هو أي قوته هي ذاته وهكذا. فقالوا بخلق القرآن بذلك، ونفوا وأنكروا صفات الله تعالى بذلك إضافةٍ إلى بدع أخرى من ثمرات القول بالتّوحيد عندهم.
وأمّا العدل: فقالوا: الله عادل. ونحن قلنا الله عادل، ولكن هم ترتّب على العدل عندهم أنّ الله لا يخلق أفعال العباد، لأنّ عندهم يتنافى هذا مع العدل « أنُّهُ الله يخلق الكفر ويخلق الشّرّ ويخلق المعصية على إيد الكافر أو العاصي وبعدها يحاسبه عليها وين العدل؟ » مع أنّ الله تعالى قد أوضح في كتابه فقال: { اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * } وقال: { وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ * } إذاً أعمال العبد مخلوقة لله، وإنّما العبد محلّ ظهورها وليس خالقاً لها « لأ » المعتزلة قالوا: العبد هو خالق أفعاله، وليس الله خالق هذه الأفعال، ثمّ قالوا: إنّ الله لا يأمر إلا بما يريد، بينما أهل السّنّة قالوا: الإرادة غير الأمر كما قال اللّقّانيّ في جوهرته:
وقــدرةٌ، إرادةٌ ، وغايـرتْ * أمراً وعلماً والرّضا كما ثبـتْ
فالإرادة غير الأمر وغير العلم وغير الرّضا، فالله يريد كلّ ما يكون ولا يكون إلا ما يريد، ويكون الخير ويكون الشّرّ ويكون الإيمان ويكون الكفر وكلّ ذلك مرادٌ لله تعالى { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * } يقول تعالى: { وَلَوْ شَاء رَبُّكَ } ( أي ولو أراد ربّك فالإرادة والمشيئة شيء واحد ) { وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً } معناها مشيئة الله لا بدّ أن تتحقّق، الله لم يشأ أن يؤمن النّاس كلّهم جميعاً، إنّما شاء وأراد أن يؤمن بعضهم ويكفر بعضهم، والله لا يرضى عن الكفر كما قال سبحانه: { إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ } معنى ذلك الإرادة والرّضا متنافيان أو لنقل: متخالفان والإرادة ولأمر كذلك مختلفان، أما هم فقد قالوا ( المعتزلة ) قالوا: إن الله لا يأمر إلا بما يريد وكيف يأمر بشيءٍ لا يريده، يأمر الإنسان العاصي بالطّاعة ولا يريد طاعة هذا العاصي، « لأ » معناها الله يريد ما يأمر، ويأمر بما يريد، هذا خطأ ٌبيّن لذلك هذا ثمرةٌ إذاً من ثمرات قولهم بالعدل، من ثمرات قولهم بالعدل أنّهم نفوا القدر فقالوا: لا قدر والأمر أُنُف ( أي الأمر قابل للتعديل والتّغيير في كلّ لحظة « ما في شيء مكتوب بالأزل أبداً » ) لا قدر والأمر أُنُف، هذا ما قال به معبدٍ الجهنيّ الّذي سنراه، وهذا ضلالٌ بيّن وإنكار لآيات كثيرة في كتاب الله تعالى قال: { وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } { وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ } إلى آخر ما هنالك فمشيئة الله حاكمةٌ مطلقةٌ، فلا يفعل العبد فعلاً إلا بتقديرٍ أزليٍّ من الله سبحانه، إذاً هذا هو المبدأ الثّاني الّذي قالوا به: العدل.
وأما المبدأ الثّالث: فإنّه الوعد والوعيد. فقد قالوا: إنّ وعد الله في الثّواب محقّقٌ لا محالة، وإن وعيد الله بالعقاب محقّقٌ لا محالة. وأمّا أهل السّنّة فقد قالوا: وعد الله بالثّواب محقّقٌ لا محالة بمشيئة الله، وأمّا الوعيد بالعقاب فللكفرة محقّقٌ لا محالة، وأمّا للعصاة فقد يغفر الله لهم وقد يعذبهم « هون » نقطة الخلاف إذاً، من خلاف حول وعيد العصاة من أصحاب الكبائر، المعتزلة أوجبوا تعذيب العصاة، أمّا أهل السّنّة فقد أجازوا أن يُغفَر للعصاة وأجازوا أن يُعذبوا، والله قد قال ذلك في كتابه: { إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً } وفي الموضع الآخر { فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً }، إذاً { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } « لأ » هم أولُّوا ذلك ليثبتوا رأيهم.
وأما المبدأ الرّابع فإنه: المنزلة بين المنزلتين، وقلنا إنّ الّذي اخترعها واصل بن عطاء « إي قال: هاد عب يرتكب معصية ما بصير نعتبره مؤمن، شلون مؤمن وعب يعصي الله؟ إي طيب كافر لكن؟ عب قول لا إله إلا الله محمّد رسول الله وبصير يكون عب صلي وبصوم، إي قال: كمان مو كافر ما بنقدر نقول عليه كافر، إي شلون ننخرج من هل المأزق؟ قال: خيو بين الاتنين لا بالجنّة ولا بالنّار يعني » في منزلة بين المنزلتين، فلا ينطبق عليه اسم المؤمن ولا اسم الكافر، وأمّا أهل السّنّة فقد قالوا: المعصية الكبيرة لا تدخل في الكفر ولا تخرج من الإيمان، لا تدخل في الكفر ولا تخرج من الإيمان أصلاً، فقد يزني الزّاني ويُسمّى مؤمناً، قد يسرق السّارق ويُسمّى مؤمناً، وقد يشرب الخمر ويُسمّى مؤمناً، ما لم يفعل مكفّراً، والمعصية الكبيرة وإن كثُرت وتعددت أشكالها فلن تخرج صاحبها من الإيمان؛ فضلاً على أن تدخله في الكفر، إذاً: هذا القول خاطئ واضح خوض قول المعتزلة.
وأما المبدأ الخامس فإنّه: الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر. ووجه الخلاف بينهم وبين المسلمين من أهل السّنّة أنّهم قالوا: إنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر واجبان وجوباً عينيّاً على كلّ مسلم. وأمّا أهل السّنّة فقد قالوا: الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر وجوبهما وجوبٌ كفائيّ على جماعة من المسلمين { وَلْتَكُن مِنكُمْ أُمَّةٌ } أي جماعة أو طائفة { يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * } وقد يكون في بعض الأحيان الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر واجبين وجوباً عينيّاً، إذا كثُرت المعاصي قد يزداد الحكم شدّةً، ولكن في الأصل فرض كفاية « مو فرض عين » فهذا موضع خلاف آخر بين المعتزلة وبين المسلمين.
إذاً من أقوالهم: نفي القدر. ونفي القدر أول من قال به كما روي رجلٌ نصرانيٌّ يقال له سوسن في العراق، أسلم متظاهراً أو غير متظاهر الله أعلم؛ المهم أنّه أسلم وحمل فكراً فاسداً وصار ينفي القدر وينكره، وأخذ عن سوسن معبد الجهنيّ، وصار يدعو لمبدأه الجديد الّذي يقول بنفي القدر، وتبنّى مبدأه كثيرون حتّى وصل الخبر إلى السّلطات العليا، فأرسل عبد الملك بن مروان إلى قبضته الحديدية الحجّاج بن يوسف الثّقفي فصلبه الحجّاج ( هذا من مآثر الحجّاج ) « في إلو مثالب وفي إلو مناقب إي هذا » من مناقبه، يعني صلب معبد الجهنيّ وصلب عبد الله بن الزّبير « بقى عجب » يكفّر هذا عن هذا، الله أعلم، الله تعالى يتكفّل بأمره ولسنا مطالبين ولسنا مخوّلين بأن نحاكمه، هذه محكمة الله « نحن ما لنا شغلة فيها » هو مؤمن وصاحب جرائم كبيرة، فلذلك لا نحكم بنجاته لإيمانه ولا نحكم بهلاكه لجرائمه، إنّما نفوّض أمر إلى الله تعالى.. إذاً صُلِب معبد الجهنيّ وذلك عام ثمانين للهجرة.
غيلان الدّمشقي أخذ القول بالقدر عن معبد الجهنيّ، وقد قال بعضهم: إنّ واصل بن عطاء أخذ القول بالقدر عن معبد، ولكن بالمقارنة بين سنة ولادة هذا وسنة وفاة ذاك نجد أنّها سنة واحدة لا يمكن أن يكون واصل قد أخذ عن معبد، ولكن يمكن أن يكون واصل بن عطاء أخذ القول بالقدر ( أي نفي القدر ) عن غيلان الدّمشقي، وغيلان الدّمشقي أخذ عن معبد الجهنيّ، ومعبد الجهنيّ أخذ عن سوسن النّصراني، إذاً هذا حول بدعة القول بنفي القدر.
وأمّا بدعة القول بخلق القرآن فإنّها تنسب إلى بعضهم مثل النّظّام شيخ الجاحظ.
وأما القول بالمنزلة بين المنزلتين فتنسب إلى أبي عليّ الجبّائيّ، أبي عليّ محمّد بن عبد الوهّاب الجبّائيّ.
وهكذا إذاً برز كلّ واحدٍ منهم بمسألة حتّى اجتمعت المسائل كلّها فصارت مذهب الاعتزال، صار مذهب الاعتزال متكاملاً من كلّ الأطراف بالتّدريج شيئاً فشيئاً.
غير بدعة المعتزلة خرجت بدعة الإرجاء، والمرجئة قومٌ ناقضوا المعتزلة في هذا القول، فالمعتزلة أثبتوا الوعيد وقالوا: لابدّ من أن يعذّب فاعل المعصية الكبيرة، والخوارج قالوا: إن مرتكب الكبيرة كافر « يعني الخوارج قالوا: كافر المعتزلة قالوا: بالمنزلة بين المنزلتين، قام المرجئة كتير كتير تساهلوا وسهلوها كتير قالوا: لا كافر ولا بمنزلة بين المنزلتين » بل إنّه كأنّه لم يذنب « ليش؟ قال »: لأنّ الله أرجأ تعذيب العصاة « أجله، أجله هلأ ما بدو يعذّبن » إنّ الله أرجأ تعذيب العصاة، فهذا سبب تسميتهم بالمرجئة ( احتمال )..
احتمال آخر لأنّهم قالوا: هذا العاصي مرجأ أي مرجى كما قال تعالى: { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } فالإرجاء هنا من هذه الكلمة من التّأخير أو من التّفويض، إذاً تساهل هؤلاء مع أصحاب المعاصي..
وكان القول الحقّ ماثلاً في عقائد المسلمين ولكن ما من عالمٍ يردُّ على أصحاب البدع « هدا اللّي بقول صاحب المعصية كافر هدا بقول لأ بين المنزلتين هدا بقول لأ ما في عليه شيء طاول الله أرجأ تعذيبه إيش بريد يساوي » لذلك فقد خرج من أهل السّنّة أفذاذٌ من العلماء ينافحون عن العقيدة الصّحيحة ويردّون تلك الشّبهات، وخرج أبو الحسن الأشعريّ، ولكن قبل أبي الحسن الأشعريّ - لئلا نغبط حق أصحاب الحق - خرج أبو عبد الله محمّد بن سعيدٍ القطّان فدافع عن عقيدة أهل السّنّة وأظهرها، ثم خرج أبو الحسن الأشعريّ الّذي كان له مذهب بيّن.
وأبو الحسن الأشعريّ هو عليّ بن إسماعيل ينتسب إلى أبي موسى الأشعريّ، وأبو موسى هو عبد الله بن قيسٍ الأشعريّ رضي الله عنه صحابي جليل فيه قال النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام: [ إن أبا موسى قد أوتي مزماراً من مزامير آل داوود ] عليه رضوان الله تعالى، كان من أجلاء الصّحابة، وقد توفّي في دمشق ودفن فيها، وقد زرت قبره عليه - رضوان الله تعالى - في قرية نائية من قرى الغوطة؛ بل أشبه بالمزرعة من مزارع الغوطة تسمى بالأشعريّ، ولا يعرف أهلها وسكّانها لماذا اسمها ( الأشعريّ )، سألت واحداً منهم أين قبر أبي موسى؟ « قالّي: يعني بدّك قبر الوليّ؟ قلت له: أي قبر الولي. تيري ما بيعرفوا مين هدا الولي ولا بيعرفوا ليش هي الضّيعة اسمها أشعري » ولا يعرفون أن الوليّ هو صحابيٌ جليل تنسب القرية إليه، إذاً ينتسب أبو الحسن إلى أبي موسى، وبينه وبين أبي موسى أربعة آباء، ولد أبو الحسن - عليه رحمة الله - عام مئتين وستين، وتوفي عام ثلاث مئة وأربعة وعشرين، وقيل ثلاث مئة وثلاثين، والأول أصحّ، أنّه عاش أربعة وستين عاماً ( من مئتين وستين للهجرة إلى ثلاث مئة وأربعة وعشرين ).
إذاً لاحظ كم مضى على المسلمين الأوائل ( على جيل الصّحابة ) حتّى خرج من ينافح ويدافع، معنى هذا أنّ وضع علم التّوحيد وعلم الكلام كان ردَّ فعل ولم يكن فعلاً كما أسلفت.
كان أبو الحسن من المعتزلة، ابتدأ بأخذ الحديث فأخذ الحديث عن السّاجيّ، والسّاجيّ من أئمة الحديث العظام في بغداد « أمّا هو أصله مو من بغداد هو أصله من البصرة » ولكن أخذ الحديث عن السّاجيّ في بغداد، وأخذ علم الكلام عن أبي عليّ الجبّائيّ ( من أئمة المعتزلة محمّد بن عبد الوهّاب ) وأُشبع بمبادئ المعتزلة حتّى صار إماماً مفوضاً في الاعتزال..
حتّى ناقش شيخه يوماً قال: أيها الشّيخ أخبرني عن ثلاثة ( وكان هذا الرّجل أبو عليّ الجبّائيّ يقول بوجوب الأصلح على الله تعالى، وهذه من مبادئ المعتزلة هذا من فروع العدل « إنُّه الله يجب عليه الأصلح.. هي نحن بنقولها من دون ما ننتبه بنقول الله ما عنده غير كلّ خير.. لأ مين قالك؟ الله عنده الخير والشّرّ الله عنده الضّر والنّفع الله من أسمائه الضّار ومن أسماءه النّافع، في واحد بيقول يا نافع يا الله انفعني، في واحد بيقول يا ضارّ يا الله ضرّ أعدائي »، إذاً الله عنده الخير وعنده الشّرّ أليس الشّرّ شيئاً؟ بلى « إي قال: الله تعالى » { خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } إذا الله خالق الخير وخالق الشّرّ إذاً:
ألـم تجـد إيلامـه الأطفـالا * ......
كما قال اللّقّانيّ فهو يؤلم الأطفال ويفعل أشياء لا يمكن أن نعتبرها خيراً، فهو يفعل ما يشاء سبحانه وتعالى { لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ * } فالمعتزلة خالفوا في ذلك قالوا: « لأ » بجب الأصلح على الله تعالى..
فسأل الأشعريّ الجبّائيّ:
- قال: أيها الشّيخ أخبرني عن ثلاثة: مؤمنٌ وكافرٌ وصبيّ؟
- فقال الجبّائيّ واثقاً بنفسه: المؤمن من أهل الدّرجات، والكافر من أهل الدّركات، والصّبيّ من أهل النّجاة ( يعني إذا مات صبيّاً ولم يكبر حتّى البلوغ ) المؤمن من أهل الدّرجات، والكافر من أهل الدّركات، والصّبيّ من أهل النّجاة « يعني بدخل الجنّة بس ما له هالمنزلة العالية »
- قال: الأشعريّ فإذا أراد الصّبيّ أن يبلغ الدّرجات فهل يستطيع؟
- قال: لا، يُقال له: إن هذه الدّرجات نالها صاحبها بالعمل الصّالح وليس ذلك عندك.
- فقال أبو الحسن: فإذا قال الصّبيّ: يا ربّ لِمَ لمْ تجعلني أكبر حتّى أكون من أهل الدّرجات؟ ( أعمل أعمال صالحة وأكون من أهل الدّرجات ).
الجبّائيّ متكلّم فذّ جوابه على رأس لسانه قال له: يقول الله تعالى له « الله ما بيعمل غير الأصلح عندهن »
- قال له: يقول الله تعالى له: لأنّني علمت أنّك لو كبرت لكفرت وعصيت فكنت من أهل الدّركات، لذلك أمتّك وأنت صغير، عملت بك الأصلح.
- فقال أبو الحسن الأشعريّ: فإذا قال الله له ذلك يقول صاحب الدّركات: يا ربّ علمتَ ما سوف يكون وعلمتُ ما سوف أكون، فإذا علمت ما سوف يكون فأمته وهو صغير فلم لم تفعل ذلك بي وتركتني أكبر حتّى أدخل النّار وأصير من أهل الدّركات؟!« ليش ما فعلت بي الأصلح؟ »..
عندها سكت الجبّائيّ ولم يحل جواباً، فعرف أبو الحسن أن هذا مبدأٌ فاسد، فدخل بيته واعتزل النّاس خمسة عشر يوماً، نقّب ودقّق ثم خرج إلى النّاس ووقف على المنبر وقال: ( يا أيّها النّاس إنّي إنّما احتجبت عنكم هذه المدّة لأنّي نظرت، فلم يترجّح عندي حقٌّ على باطل ولا باطلٌ على حقّ، فاستهديت الله تعالى فهداني إلى اعتقاد ما أودعته في كتبي هذا، وإنّي أنخلع ممّا كنت عليه كما أنخلع من ثوبي هذا ) وألقى ثوبه عنه وقذف كتبه إلى النّاس، منها كتاب اللّمع ومنها كتاب كشف الأسرار وهتك الأستار..
وفي رواية أنه قال: ( يا أيها النّاس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرّفه بنفسي، أنا فلان بن فلان كنت أقول بخلق القرآن، وكنت أقول بأنّ الله لا يُرى في الآخرة بالأبصار )، « هذا من قولهم بالتّوحيد قالوا: الله لا يُرى بالأبصار »، ( كنت أقول بخلق القرآن، وكنت أقول بأنّ الله لا يُرى في الآخرة بالأبصار، وكنت أقول بأن العباد يخلقون أفعالهم بصنعهم، وأنا أتوب من ذلك كلّه، وأنخلع من قولي كما أنخلع من هذا الثّوب ).
إذاً كان أبو الحسن رجلاً شجاعاً جريئاً مقداماً، والشّجاعة الفكريّة أبلغ بكثير من الشّجاعة الجسديّة النّفسيّة، شتّان بين الّذي يقذف نفسه في الوغى وهو يتوقّع أن يقتل، وبين الّذي يجرؤ على قول الحقّ، هذا أشجع من ذاك لأنّ اللّسان أبلغ من السّنان فجريء اللّسان أجرؤ من جريء السّنان.
وبدأ أبو الحسن يُدافع عن الإسلام الصّحيح الّذي فهمه، ضدّ الإسلام الخاطئ الّذي فهمه المعتزلة، وجعل يُقارع أساتذته السّابقين، بعد أن تبيّن ضلالهم، وتبيّن فساد أفكارهم، وتبيّن له الحقّ من الباطل، فألّف كتباً هي أصول علم التّوحيد الإسلامي منها: ( اللُّمَع )، ومنها: ( الموجز )، ومنها: ( كشف الأسرار وهتك الأستار )، ومنها: ( الإبانة عن أصول الدّيانة )، ومنها: ( مقالات الإسلامييّن واختلاف المصلين )، كلّ هذا وضعه أبو الحسن، وكان أبو الحسن الأشعريّ شافعيّاً.
في الوقت ذاته كان رجلٌ آخر في موطن آخر من مواطن المسلمين ينافح عن العقيدة الصّحيحة، لقد كان ذاك الرّجل في سمرقند وفي ضاحية أو في مَحِلّةٍ من ضواحي أو من محالّ سمرقند تدعى ماتُريد، وكان ذلك الرّجل هو أبو منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتُريديّ رحمة الله عليه، وكان حنفيّ المذهب، لذلك يغلب على الحنفيّة في الفقه أن يكونوا ماتُريديّة في العقيدة، ويغلب على الشّافعيّة والمالكيّة والحنابلة في الفقه أن يكونوا أشاعرة في العقيدة.
كان أبو منصور معاشراً ومعاصراً لأبي الحسن في الزّمن، فقد تُوفي أبو منصور الماتُريديّ عام ثلاث مئة وثلاثاً وثلاثين للهجرة، أي بعد وفاة أبي الحسن بتسعة أعوام أو بثلاثة أعوام على الاختلاف الّذي ذكرناه.
ومبادئ الماتُريديّة والأشاعرة متقاربةٌ جداً، والاختلافات الّتي بينهم بيّنة، ولكن اختلافات الماتُريديّة والأشاعرة مع المعتزلة والشّيعة والخوارج اختلافات كبيرة، لذلك عُدّ أهل السّنّة ما بين ماتُريديّة وأشاعرة، فعُدّ هذان الرّجلان هما إماما أهل السّنّة، لأنّهما من أول من صنّف.
فمن كتب أبي منصور رحمة الله عليه: ( المقالات ) كذلك، وكتاب ( التّوحيد ) وكتاب: ( تأويلات القرآن ) وغيرها رحمة الله تعالى عليه.
هذا موجزٌ حول نشوء مذاهب أهل التّوحيد، ومذاهب العقيدة وعلم الكلام، وحول سبب نشوء علم الكلام عند أهل السّنّة، فهو إذاً علمٌ أريد به الرّدُّ على أصحاب الشّبهات، والرّدّ على أصحاب البدع المنكرات، وإلاّ فلو لم تظهر تلك البدع لما كان المسلمين محتاجين إلى علم يوحدون الله به لأنّ التّوحيد في الأصل ممكن.

الملفات الصوتية
الملف الأول
أرسل هذه الصفحة إلى صديق
اسمك
بريدك الإلكتروني
بريد صديقك
رسالة مختصرة


المواضيع المختارة
مختارات

[حسن الظن بالله]

حسن الظن بالله يعني أن يعمل العبد عملاً صالحاً ثم يرجو قبوله من الله تعالى ، وأن يتوب العبد إلى الله تعالى من ذنب عمله ثم يرجو قبول الله تعالى لتوبته ، حسن الظن بالله هو ذاك الظن الجميل الذي يأتي بعد الفعل الجميل.
يقول النبي عليه الصلاة والسلام : {لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى.}
قال سبحانه في الحديث القدسي :{ أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني } أنا عند ظن عبدي بي فإذا ظننت أنه يرحمك وأخذت بأسباب الرحمة فسوف يرحمك ، وأما إن يئست من رحمته وقصرت في طلب أسبابها فإنه لن يعطيك هذه الرحمة لأنك حكمت على نفسك والله تعالى سيحكم عليك بما حكمت أنت على نفسك .