مواضيع متنوعة > أدب الاختلاف
أدب الاختلاف

من بعد وفاة المصطفى عليه الصلاة والسلام، بدأت أفكار الناس تتشعَّب، وبدأت أصول المذاهب تتجذَّر، فصار الاختلاف متنوِّع الأشكال، فاختلاف في تفسير آيِ القرآن، واختلاف في أحكام العبادات والمعاملات، واختلاف في بعض العقائد، وكان الخلاف ضمن ساحة الخلاف المحمود الذي لا يضير وَحْدة المسلمين، ولايزعزع كيانهم. ومع امتداد الزمان ........

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. اللهم أرِنا الحقّ حقاً وارزقنا اتِّباعه وحبِّبنا فيه، وأرِنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه وكرِّهنا فيه. اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين. اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيِّئ الأخلاق لا يصرف عنا سيئها إلا أنت. اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكِّها أنت خير من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها. ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم. اللهم ارحنما فإنك بنا راحم، ولا تعذِّبنا فإنك علينا قادر، والطُف بنا فيما جرت به المقادير. اللهم إنا نسألك من خير ما سألك منه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ونعوذ بك من شر ما استعاذك منه نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ونسألك من الخير كله عاجله وآجله ماعلمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم، ونسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل ونيَّة واعتقاد، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل ونية واعتقاد، وما قضيت لنا من أمر فاجعل عاقبته رُشْداً برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم إنا نسألك حبَّك، وحب من يحبك، وحب العمل الذي يقرِّبنا إلى حبك. ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبِّت أقدامنا، وانصُرنا على القوم الكافرين. اللهم اغفر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا، وما أسررنا وما أعلنّا، وما أسرفنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدِّم وأنت المؤخِّر، لا إله إلا أنت، فلك الملك ولك الحمد. اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أعمارنا أواخرها، وخير أيامنا يوم نلقاك. اللهم أحيِنا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفَّنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا. اللهم اقْسِم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلِّغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهوِّن به علينا مصائب الدنيا حتى نعلم أن لن يصيبنا إلا ما كتبت لنا، ومتِّعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوَّتنا أبداً ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلِّط علينا من لا يرحمنا. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر. اللهم بفيضك العميم عمَّنا، واكفنا اللهم شر ما أهمَّنا وأغمَّنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسنَّة جمعاً توفَّنا، نلقاك اللهم وأنت راضٍ عنا، نلقاك اللهم وأنت راضٍ عنا، وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من بعد وفاة المصطفى عليه الصلاة والسلام، بدأت أفكار الناس تتشعَّب، وبدأت أصول المذاهب تتجذَّر، فصار الاختلاف متنوِّع الأشكال، فاختلاف في تفسير آيِ القرآن، واختلاف في أحكام العبادات والمعاملات، واختلاف في بعض العقائد، وكان الخلاف ضمن ساحة الخلاف المحمود الذي لا يضير وَحْدة المسلمين، ولايزعزع كيانهم. ومع امتداد الزمان تطوّر الخلاف وتشعّب، فازدادت المسائل المُختلَف فيها، واتّسع مدى الخلاف بين المختلفين، ووصل الخلاف إلى الأسس والأصول، ثم هذه المذاهب تحوّلت إلى طوائف، ثم من هذه الطوائف ظهر ما يشبه الأديان الأخرى التي لا تمتُّ إلى الإسلام بصلة على الإطلاق، ثم تحول الخلاف الفكري إلى خلاف عمليٍّ قد يتطوّر فيصير تكفيراً في أحيان وتذبيحاً في أحيان أُخَر، حتى جاء على المسلمين زماننا هذا، هذا الزمان الذي وإن كان بعيداً عن ذلك الزمان بعداً يكفي لزيادة التشعُّب وتعميق التشتُّت، ولكنه زمان توافرت فيه وسائل المعرفة. فهو زمان يمكن فيه الوصول إلى الحقائق، ويمكن فيه حسم الخلاف بشكل سهل، أسهل مما كان في أزمنة ماضية. وقد بشَّر النبي عليه الصلاة والسلام بأن آخر هذه الأمة سيكون مثل أولها، فقال صلوات الله وسلامه عليه: (أمَّتي كالغيث، لايُعرف أوّلها خير أم آخرها)، وذلك لأن الأمَّة الإسلامية مثلها مثل كل أمّة أخرى، تمرُّ بأطور من التقدم وأخرى من التأخُّر، مدٌّ وجَزْر، امتداد وانحسار، ابتدأ الإسلام ضعيفاً، ثم قوي في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، ثم قويت أمور من بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام: سياسيّة، اقتصاديّة، عسكريّة، وضَعُفَت أمور: روحانيّة، عِرفانيّة، سلوكيّة، وهكذا...
ثمّة أمور تتقدّم وأخرى تتأخّر، ولكن في آخر الزمان خير كما أخبر صلى الله عليه وسلم: (أمّتي كالغيث، لا يُعرف أوّلها خير أم آخرها). وأعظم فضائل هذه الأمة حفظ دينها. فالدِّين الذي هو القرآن والسنة كنص، والعقل السليم والمنطق السديد كآلة محفوظان. غير الإسلام من الشرائع لم ُيؤسَّس على نص ثابت، ولم ُيبنَ على منطق مسدَّد، لذلك دين الآخرين غير دين الأولين عند غير المسلمين، وأما في الإسلام فإن دين الأولين و الآخرين هو هو، لأن النص ثابت والمنطق محدَّد. فالعقل، الذي هو ملَكَة ثابتة باختلاف العصور وتنوُّع البلاد، آلة ثابتة، ملكة مطلقة لاتوجِّهها في الحقائق الأساسية بيئة اجتماعية أو امتداد زمان. ومن هنا كان الإسلام ثابتاً، لأنه محدد النص ومحدد الآلة. (تركتكم على المَحَجّة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك). هذا الاختلاف الذي كان في عهد ما بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام كانت له جذور في عهد المصطفى عليه الصلاة والسلام، لأن الاختلاف درجات، فمن درجاته ما هو مقبول لا يرفضه الإسلام ولا يمنعه، ومنها ما هو مردود، يجعله الإسلام انحرافاً يُحاسَب فاعله أو فاعلوه، وربّما يوصل فاعله أوفاعليه إلى الكفر.
فَلَنَا أن نتصور حيِّز الأفكار الإسلامية على اختلافها دائرة لها مركز، في المركز النص، وحول هذا المركز أناس متحلِّقون، كلٌّ يأخذ من النص مفهوماً. يقفون في جهات متغايرة، ولكنهم جميعاً مطوَّقون بمحيط الدائرة، لم يخرجوا عنه.
وثمّة آخرون ملتفُّون حول هذه الدائرة لم يدخلوها، ويزعمون أنهم مرتبطون بهذا المركز، ولكنهم بعيدون بعداً شاسعاً عنه.
فالاختلاف المحمود ضمن الدائرة، والمذموم خارجها. فلا يمكن أن يكون الناس كلهم واقفين في المركز، فلا بدَّ من التوزُّع حول المركز ضمن الدائرة، فهذا اختلاف لا يضير.
وهذا الاختلاف بدوره نوعان: فالاختلاف الذي لايذمُّه الإسلام له نوع أول يكون فيه الطرفان مصيبين، ونوع ثان يكون أحد الطرفين مصيباً والآخر مخطئاً خطأً مجبوراً.
إذاً، في حالة الاختلاف قد يكون الطرفان المختلفان مصيبين، وفي االحالة الأخرى الطرف الواحد مصيب، ولكن الآخر لن يأثم لأنه أخطأ لأن خطأه من النوع المحتَمل. يقول قائل: كيف يكون الرأيان المتخالفان صوابين والحقيقة واحدة، والإسلام حقيقة؟
والجواب على ذلك أن الإسلام حقيقة ثابتة موحَّدة في المسائل الكليَّة، وهو في المسائل الجزئية يضع احتمالات عدة، وذلك من باب التيسير على أتباع هذا الدين، وقد قيل: (اختلاف أمَّتي رحمة(، والحديث ليس صحيحاً، ولكن قد يكون الرأيان صوابين.
في المسائل الأساسية الموضوع مثل معادلة من الدرجة الأولى. معادلة الدرجة الأولى واضحة بسيطة ليس لها إلا حلّ واحد.
فعندما نقول: س + 3 = 5
فليس عندنا إلا حل واحد:ال س اثنان، ومن قال غير ذلك مهما قال فهو مخطئ.
وأما في المسائل الجزئية الدقيقة فإن الموضوع مثل معادلة من الدرجة الثانية، من رتبة:
س2 + 3س + 5 = 0 فإن للمعادلة حلّين.
وهكذا المسائل الجزئية الدقيقة تحتمل حالتين في أحوال كثيرة، والحلان يكونان صحيحين. هل لهذا الكلام المنطقي المجرَّد تجسيد في جيل الصحابة، وبالخصوص في عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ هل اختلف الصحابة على رأيين، وكان الرأيان صوابين؟
نعم، مرَّاتٍ ومرات، وأشهر هذه الأحداث ما كان من بعد غزوة الخندق عندما رجع المسلمون منهَكِين من تلك المعركة التي لم تشهد قتالاً، ولكنها كانت يوم شدة. {إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم، وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، وتظنّون بالله الظنون * هنالك ابتُلِي المؤمنون وزُلزلوا زلزالاً شديداً}.
رجعوا من تلك الغزوة، وعزَم النبي عليه الصلاة والسلام على تسيير كتيبة تقتص من الخونة اليهود، بني قُرَيْظَة، الذين أعانوا مشركي العرب على غزو المدينة، قال: (لأعقِدَنّ الراية غداً لرجل يحبّ الله ورسوله ويحبانه)، يحبّ الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. فباتوا يدُوكُون ليلتهم، كلّ يدوك ليلته، أيّهم يُعطَاها؟
قال عمر: )فما تمنّيت الإمارة إلا ليلة إذ). (يحب الله ورسوله، ويحبانه). هذا مطمعه لا الإمارة. فلمّا أصبح عليه الصلاة والسلام قال، والناس مشرفون، مُهْطِعُو رؤوسهم، كلّهم ينتظر، مُشْرَئِبُّون بأعناقهم، يتحفّزون، من يكون الأمير؟ من صاحب البشارة؟
قال عليه الصلاة والسلام: (أين عليّ بن أبي طالب؟) رضي الله عنه، وكرّم وجهه. قالوا: يارسول الله، بعينيه رمد. (نقّيلك غير واحد. نحن كثر، جاهزون)، بعينيه رمد. قال: (ادعوه)، أتى علي رضي الله عنه، تَفَل النبي عليه الصلاة والسلام في وجهه، فأبرأه الله من رمده، وعقد النبي صلى الله عليه وسلم له الراية، ثم سيَّرهم عليه الصلاة والسلام بعد أن أعطاهم تلك الوصيّة المحيِّرة:
(ألا من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلينّ العصر إلا في بني قريظة)، أو الظّهر. (ألا من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلينّ العصر إلا في بني قريظة). ومضى المسلمون، وهم لم يجهدوا أنفسهم في التفكير في مفهوم هذا المنطوق، فالمنطوق مفهوم فهماً ظاهراً، ولكنْ سيأتي عليهم وقت يحتارون في فهمه.
مضوا وأغدّوا السير لأن المدلول الباطن لهذه الوصية أن يسرعوا، حتى كاد وقت الصلاة يفوتهم ويدخل الوقت الذي بعده، هنا كان الخلاف:
فريق يقول: نصلّي العصر ثم نمضي. آخر يقول: رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يصلينّ إلا في بني قريظة). يقول فريق: رسول الله عليه الصلاة والسلام إنّما أراد أن نسرع، وهو لم يقصد أن نفوّت الصلاة عن وقتها. الفريق الآخر يقول: نحن لا يهمّنا ما كان مقصده، نحن يهمّنا ظاهر النص. فريق يميل إلى التأويل، وآخر يأخذ بالظاهر. فريق يبحث عن المجاز، وآخر يكتفي بالحقيقة.
وهنا انقسموا فريقين، أما أحد الفريقين فقد صلى في الطريق ثم تابع سيره، وأما الآخر فقد تابع سيره حتى فاته الوقت، ثم قضى الصلاة بعد أن وصل إلى بني قريظة.
وهناك رسول الله عليه الصلاة والسلام الكفيل بتِبيان الحقائق. تبعهم عليه الصلاة والسلام حتى وصل إلى معسكرهم. ماذا كانت النتيجة؟ لم يعنِّف رسول الله أحد الفريقين.
كنت أتكلَّم يوماً عن أن الاختلاف قد يكون محموداً، فقفز أحدهم وقال: لا يمكن، الحقيقة واحدة لا تتغيّر، ليس هناك إلا رأي واحد، وهو يريد أن يصل من هذا الكلام إلى أن يقول: أنا فقط على صواب، وطائفتي وجماعتي فقط على صواب، والمسلمون كلهم على خطأ. يريد أن يقرّ أن هناك رأياً واحداً – مبدئياً – هو الصواب، فإذا ثبت هذا يقول مادام هناك رأي واحد هو الصواب، وما دام رأيي صواب فهو الرأي الصواب الأوحد. مادام رأيي مصيباً، هذا مسلَّم به، وما دام الصواب واحداً، فإذاً: رأيي هو الصواب الأوحد. أتيت له بهذه القصّة المعبِّرة، فقال: ليس هناك ما يدلّ على أنّهما على صواب.
قلت:إذاً من كان على صواب؟
قال: أحدهما.
قلت: أيّهما؟
قال: أحدهما.
قلت: هل رسول الله عليه الصلاة والسلام لام أحد الفريقين؟
قال: لا.
قلت: لماذا لم يلُم أحد الفريقين؟
قال: لألا يزعجه، (يعني شي صار وصارخلص، ليش لحتى يعاتبون ويلومن؟)
قلت له: ولكن هناك إقرار.
قال: لا، ليس هناك إقرار.
قلت له: ماذا في الحديث؟ لم يعنِّف أحد الفريقين.
قال: نعم، لم يعنِّف، ماقال: أقرّ.
هي، لم يعنّف إش معناها؟ هذا مايُسمَّى الإقرار السكوتي. بما أنه سكت فقد أقرّ ورضي. أي نحن قال دخلنا لقلب رسول الله عليه الصلاة والسلام لنعرف أنو هو ما رضي عن أحد الفريقين، بس حب ما يزعلون بس سكت.
حاشى له أن يسكت على خطأ. فإذاً، لفّة ودورة مالا أساس ولالا داعي.
فلم يعنّف رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد الفريقين. إذاً، أقرّهما فكلاهما كان مصيباً.
كل واحد وقف قريب من مركز الدائرة، واحد من اليمين، وواحد من اليسار، كانوا بعكس بعضهم، ولكن جوّات الدائرة.
إذاً، في هذه الحالة كان الرأيان المتخالفان صوابين.
نوع ثان يكون فيه رأي من الرأيين صواباً، والآخر خطأً، ولكن يبقى هذا الاختلاف ضمن الدائرة المقبولة، وضمن الاختلاف المحمود.
مثال ذلك أن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم بعد غزوة بدر قد اختلفوا عندما استشارهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأسرى، ماذا يصنع بهم؟
فقال جمهورهم بالفداء، وقال بعضهم بالقتل. وكان ضمن الجمهور سيدنا أبو بكر رضي الله عنه، قال: (يا رسول الله، إنما هم أهلك وعشيرتك، ولعلّ الله يمنّ عليهم بالإسلام)، الله أرسلك رحمة، إذا أطلقتهم الآن عسى أن يسلموا في الزمان القادم.
قال عمر، وكان يمثّل القلّة الباقية: (يا رسول الله، اقتلهم حتى لا يزال العرب يهابوننا). دخل النبي عليه الصلاة والسلام بيته ثم خرج، ورسول الله عليه الصلاة والسلام ليس ملزماً بنتيجة هذا الاستفتاء، وهذه مسألة مهِمٌّ التعرّف عليها. الله تعالى أمر نبيّه عليه الصلاة والسلام بالمشاورة، قال: {وشاورهم في الأمر}، ولكن لم يلزمه بالأخذ بنتيجة الشورى، ليس مطالباً بالأخذ بقول الأكثر وترك قول الأقل، بل حتى لو أجمعوا على قول واحد كلهم أجمعون أكتعون أفصعون أفتعون، وهو وحده رأى غير ذلك فله أن يفعل ما يرى، ويدع رأي الجماعة كلها. فهو عليه الصلاة والسلام يشاورهم مشاورة غير ملزمة، مشاورة يُراد بها الاطّلاع على الآراء فقط.
خرج عليه الصلاة والسلام، وقال: (إن الله ليليِّن قلوب أقوام حتى تكون أرقّ من اللبن، وإن الله ليقسِّي قلوب أقوام حتى تكون أقسى من الصخر. وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم إذ قال: {فمن تبعني فإنه منِّي، ومن عصاني فإنك غفور رحيم}، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى إذ قال: {إن تعذّبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم}. وإن مثلك يا عمر كمثل نوح إذ قال: {ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديّاراً}، وإن مثلك يا عمر كمثل موسى إذ قال: {ربّنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم}، ثم أعلن أنه قرّر الأخذ بالفداء.
اختلف الصحابة، أنزل الله تعالى ترجيحاً لرأي عمر: {ما كان لنبيّ أن يكون له أسرى حتى يُثخِن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم * لولا كتاب من الله سبق لمسّكم في ما أخذتم عذاب عظيم}. إذاً، كان رأي عمر أصوب. جاء عمر، وقد نزلت الآيات على رسول الله عليه الصلاة والسلام، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر رضي الله عنه جالسين يبكيان، قالا له: (كاد الله يهلكنا في مخالفتك) (كاد الله يهلكنا في مخالفتك).
إذاً: ثمة اختلاف، وثمة صواب وخطأ، ولكن لم يكن خطأ أبي بكر مذموماً، بل كان خطأً محموداً، فكلٌّ فَهِم المسألة من وجه، وكلا الوجهين كان مصيباً، ولكنْ واحد صواب وآخر أصوب، هذا كل ما في الأمر. للورع الزائد صارا يبكيان، وإلا فليست المسألة داخلة ضمن حدود الذنب أو ضمن حدود الانحراف، وإنما حَسَن وأحسن.
هنا اختلاف بين صواب وخطأ، ومع ذلك فهو محمود لا ذمّ له. من هنا نعلم أن الخلاف قد يكون محموداً في بعض الحالات ولا يُذَمّ. وقد قلت في مقالة سمَّيتها: (تعالوا نختلف) كلاماً حول هذه المسألة طويلاً، كان ختام الكلام:
لقد مضى على المسلمين والعرب زمان طويل وهم يحاولون أن يتَّفقوا، ولم يستطيعوا، لم؟ لأننا لا نحاول أن نبحث عن الحقيقة لنذهب إليها، بل نحاول أن نأتي بالحقيقة إلى عندنا، نحاول أن نأتي بالحقيقة إلى عندنا ههنا، الحقيقة ينبغي أن تأتي هي، وأنا لا أتنازل وأذهب إليها، عليها هي أن تذهب إلى عندي، وعليها أن تصير إيّاي، لا أصير إيّاها. وإذا أردتَ أن تبحث عن الحقيقة فهي أنا، فإن أتيتني وجدتها عندي، هكذا منطقنا. منطقنا منطق لا منطقي، ولا عقلاني.
قلت: (فإذا تقرّر عندنا أن من المتعذِّر أن نتّفق، فعلى الأقل لنتعلّم كيف نختلف).
الاتّفاق صار مستعصياً متعذّراً، لا بد من الاختلاف، لا بأس. علينا أن نتعلّم إذاً فِقْه الخلاف، علينا أن نتعلّم أصول الخلاف، أن نتعلّم آداب الخلاف. ما أروع الخلاف عندما يكون متأدّباً بآدابه، وما أبشع الاتفاق عندما يفتقر إلى آدابه. رُبَّ اختلاف خيرٍ من اتفاق، نعم. وربّ تباين خير بكثير من توافق. فالمسألة مرتبطة بالأصول والضوابط. فإن تحقّقت الضوابط في الاتفاق أو الاختلاف كان حسناً.
إذاً، في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، وفي الزمان الأول من بعده، كان هناك اختلاف مع أنه قرن صالح، بل هو القرن الأصلح، ولكن كان الاختلاف ضمن هذه الحدود.
اختلف الصحابة من بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام في تفسير آيات من كتاب الله، فلابن عباس قول، ولابن مسعود قول، ولغيرهم أقوال، ولكنْ كل ذلك كان ضمن محيط الدائرة، ولم يخرجوا عن ذاك المحيط. فلم يقل ابن عباس في كتاب الله تفسيراً خارجاً عن الإسلام. في تفاسيرهم كانوا أحياناً مصيبين رَغم الاختلاف، وأحياناً أخرى مصيباً بعضهم ومخطئاً بعضهم، ومع ذلك فقد كان ذلك مقبولاً ومرضياً. فمَن اجتهد فأخطأ فله أجر، ومن اجتهد فأصاب فله أجران، على أن يكون الاجتهاد ضمن ما يُجتهد فيه، وضمن ما يجوز الخوض فيه دون أن يمسّ بالأسس والكلّيّات.
من بعد هؤلاء بدأ الاختلاف المذموم يظهر، وصل الاختلاف إلى الأسس، وبدأ السُّوس ينخر، وبدأت الطوائف تظهر. كان الرجل منهم يلتزم بالحضورعند ابن عباس وهو يحب ابن مسعود، ولكنه يحب ابن عباس أكثر. وكان الرجل يعمل بفتوى الإمام أبي حنيفة، وهو يحب الأوْزَاعِيّ، ويحبّ سائر علماء المسلمين، ولكنه يحب أبا حنيفة أكثر. ثم ظهر زمان صار المختلفون فيه متباغِضِين، وصار الاختلاف يعني الخلاف بأشد أشكاله قبحاً. ثم تطور أكثر وأكثر إلى أن وصل إلى التكفير. وكانت الفتنة السياسية التي شهدها عصر الخلافة مَرْتعاً خَصْباً للاختلافات الفكرية. فالسياسة أنتجت مذاهب، أنتجت طوائف، أنتجت أفكاراً دخل الخلاف فيها حتى في الأمور الفقهية، وفي أمور تفسير. فكل هذه العلوم: الفقه، والتفسير، والحديث، بإمكانها أن تخدُم السياسة إذا أُحسِن استثمارها. لذلك، الاختلاف السياسي الذي دار حول الخلافة، وصل إلى تفاصيل الإسلام فظهرت الطوائف، وكان أشد الطوائف مخالفة طائفة الخوارج، ولعلّ اسمهم يدل على مخالفتهم. اختلاف المسلمين كان في محورين لا ثالث لهما: المنصوص والمفهوم.
فمنهم كان يجاوز المنطوق إلى غيره، فهو لا يعتمد الحديث الصحيح، بل يعتمد أحاديث موضوعة ربّما، ويعتمد الرأي عوضاً عن الحديث ربما، ويعتمد الهوى في أحيان كثيرة، ويدع الحديث بجملته منطوقاً من الأصل. ومنهم من كان يأخذ بالحديث ويلتزم بصحة الحديث، ويلتزم بالقرآن وآيات القرآن، ولكنْ كان يسيء فهم هذه النصوص، ربما يُغرِق في التأويل كما فعل الباطنيّة، وربما يبالغ في السطحية كما فعل الظاهريّة، وكما فعل الخوارج من قبلهم. والوجهان كانا خارجين عن الدائرة. يوم بني قريظة، منهم مَن أوّل، ومنهم من لم يأوّل، كانا متقابلين، قريبين من المركز، ضمن الدائرة. من بعد ذلك ازدادت حِدَّة التأويل حتى وصلت إلى الباطنية، وازدادت حدة السطحية حتى وصلت إلى الظاهرية، فخرجا من الدائرة، وبقيا متقابلين، ولكن خارج الدائرة بالمرَّة. الخوارج كانوا أشد الناس تقديساً للنص، للكتاب وللسنة، ولكنْ ذلك مردود عليهم، لأنه تقديس أحمق يفتقر إلى العقلانية في الفهم، إلى المنطق. كفَّر الخوارج سيدنا علياً رضي الله عنه، هم لم يأتوا بشيء من عندهم، من القرآن كفَّروه. يوم قبِل سيدنا علي بالتحكيم كان واقفاً يخطب على المنبر في الكوفة، إذ دخل رجل من الخوارج عليه، ونادى بأعلى صوته - وكأنه في تلك اللحظات تمثّل (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)، وتمثّل أنه لا يخاف في الله لومة لائم (يعني المسألة كانت مقلوبة تماماً) - وقال: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}. أجابه سيدنا علي، لم يجبه بآية لأن الآية يقدِّسها سيدنا علي، المنطوق متفَّق عليه، ولكنْ المفهوم، لا نقول مختلَف عليه، لأن علياً رضوان الله عليه والخوارج ليسا مختلِفَين، وإنما الخوارج مخالِفون، ثمّة فارق بين المخالفة والاختلاف، أن نختلف أنا وأنت، أنا أمتلك احتمالاً ما لأن أكون صواباً، وأنت كذلك. وأما أن يخالف شِرذِمَة من الناس صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام، فهذا لا يسمَّى اختلاافاً. ولا يبلغ هؤلاء أن يُوضعوا بمقابل الصحابة، فيُقال: الصحابة والخوارج مختلِفون. بل هؤلاء مخالِفون، والصحابة مخالَفون، لأنهم هم على الصواب.
فسيّدنا علي لم يأته بنص، بل بيّن أن فهمه هو الفهم الفاسد، فقال: (كلمة حقّ أُرِيد بها باطل). كلمة حقّ: منطوقك صحيح. أُريد بها باطل: مفهومك خاطئ. (كلمة حق أريد بها باطل). قتل الخوارج سيدنا علياً رضوان الله عليه، كانوا يرَون أن هذا تقرّب عظيم من الله، قُربَة لا تعدِلها قربة. لقد قضَوا على رأس الفتنة. هكذا كانوا يتصوّرون. قاتلهم الله ولعنهم وأخزاهم. قتلوه وهم يتصوّرون أنهم فعلوا عظيماً من الطاعة. وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بهؤلاء القوم من قبل، يوم كان يقسِم الغنائم صلى الله عليه وسلم، فقام رجل وهو إمامهم ومبدأ أمرهم، ولعلّه كان يتصوّر أنه يجهَر بالحق، وأنه يصْدَع بما يرى من الصواب، قال: (اعدل يا رسول الله اعدل، اعدل، هذه قسمة ما أُريْد بها وجه الله، اعدل). قال عليه الصلاة والسلام: (ويحك! من يعدل إن لم أعدل؟). (أنت تتعلمني!) (ويحك! من يعدل إن لم أعدل؟) (إش بينحكا معو هيك إنسان، هاد ما بينحكا معو، هاد بينحكا عنّو لأنو الحكي معو ما بينفع). فلذلك لا بد من تحذير الناس منه لأنه لا يمكن إصلاحه ما دام هذا منطقه. قال عليه الصلاة والسلام، وقد التفت إلى أصحابه: (يخرج من ضِئْضِئ هذا أقوام تحقِرون صلاتكم مع صلاتهم)، (من كتر ما صلاتهم خاشعة وبطولوا بالصلاة) (يخرج من ضئضئ هذا أقوام تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وقرآنكم مع قرآنهم)، أي، (يمْرُقُون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، تنظر في القِدح فلا ترى شيئاً، وتنظر في النصل فلا ترى شيئاً) يعني (مظاهرهم ما شاء الله، بتقول ما شاء الله على التقوى، ولكن ليس لهم في الإسلام حظ)، ومنهم كان الخوارج. أُتِي بالخارجيّ عبد الرحمن بن مُلْجِم المُرَادِيّ التُّجِيْدِيّ بعد أن قُبِض عليه، بعد أن قتل سيدنا علياً رضي الله عنه، أُتِي به ليُقتَل بسيدنا علي، وقد قال سيدنا علي رضوان الله عليه قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة: (إن أنا عشت فخلوا بيني وبينه - بعرف شغلي معو أنا - وإن أنا متّ فألحقوه بي حتى أحاكمه عند ربي) (لحْقُو على الدار الآخرة وهنيك بعرف شغلي معو عند الله). وتُوفِّي سيدنا علي رضوان الله عليه، وأُتي بهذا الرجل، لقد كان يصلّي عندما أتَوا به، ولمّا أتَوا به كان لسانه لا يفتر عن ذكر الله، ولكن هيهات أن ينفعه ذلك، وقد خالف الحق وخرج عن الدائرة بالمرة.
فلنعْلَم إذاً أن الاختلاف قد يكون محموداً أحياناً، فلنحترم من يختلفون معنا. وقد يكون مذمواً أحياناً أخرى، فإيّانا أن نخالف ما كان حقاً بيِّناً.
في الخلاف المحمود ننظر إلى غيرنا، ونعتبر اختلافهم معنا من نوع الاختلاف المحمود، وإن نحن خالفنا الحق فنظنُّ أن هذا اختلاف مذموم على أن نعرف الحق أولاً لنعرف أين تكون الموافقة، وأين تكون المخالفة، فلا يُعرف أن المخالفة مخالفة حتى تعرف حقيقة المخالَف.
نسأل الله أن يردّنا إلى دينه رداً جميلاً. والحمد لله رب العالمين.
*******

أرسل هذه الصفحة إلى صديق
اسمك
بريدك الإلكتروني
بريد صديقك
رسالة مختصرة


المواضيع المختارة
مختارات

[حسن الظن بالله]

حسن الظن بالله يعني أن يعمل العبد عملاً صالحاً ثم يرجو قبوله من الله تعالى ، وأن يتوب العبد إلى الله تعالى من ذنب عمله ثم يرجو قبول الله تعالى لتوبته ، حسن الظن بالله هو ذاك الظن الجميل الذي يأتي بعد الفعل الجميل.
يقول النبي عليه الصلاة والسلام : {لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى.}
قال سبحانه في الحديث القدسي :{ أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني } أنا عند ظن عبدي بي فإذا ظننت أنه يرحمك وأخذت بأسباب الرحمة فسوف يرحمك ، وأما إن يئست من رحمته وقصرت في طلب أسبابها فإنه لن يعطيك هذه الرحمة لأنك حكمت على نفسك والله تعالى سيحكم عليك بما حكمت أنت على نفسك .