مواضيع متنوعة > الثبات |
الثبات |
يندر أن نرى في المسلمين أناساً لم يستقيموا على طريق الهدى ولو فترة قصيرة من أعمارهم، ويندر أن نرى فيهم أناساً لم تصْفُ قلوبهم في زمان من الأزمنة. فمعظم المسلمين قد مرّ بزمان صفاء، واستقام لمدة من المدد على طريق الهدى، ولكنْ مشكلة هؤلاء المسلمين التقلّب. ولو قدّرنا أن كل إنسان يسلك طريق الهدى يدوم عليها لكان المسلمون اليوم في حالة قريبة من المثاليّة.........
الثبات
يندر أن نرى في المسلمين أناساً لم يستقيموا على طريق الهدى ولو فترة قصيرة من أعمارهم، ويندر أن نرى فيهم أناساً لم تصْفُ قلوبهم في زمان من الأزمنة. فمعظم المسلمين قد مرّ بزمان صفاء، واستقام لمدة من المدد على طريق الهدى، ولكنْ مشكلة هؤلاء المسلمين التقلّب. ولو قدّرنا أن كل إنسان يسلك طريق الهدى يدوم عليها لكان المسلمون اليوم في حالة قريبة من المثاليّة.........
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك لا نحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك. ربنا لك الحمد ملء السماوات، وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد. ربنا لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد أن ترضى. ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبِّت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم إنك عفوّ تحب العفو فاعفُ عنا. اللهم علّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علّمتنا. اللهم إنا نسألك علماً نافعاً، وقلباً خاشعاً، ولساناً ذاكراً، وعملاً صالحاً متقبلاً. ربنا لا تكلنا إلى أنفسنا ولا إلى غيرك طرفة عين ولا أقل من ذلك، وأصلح لنا شأننا كله في الدين والدنيا والآخرة. اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا ومن عذاب الآخرة. ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم. اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئ الأخلاق لا يصرف عنا سيّئها إلا أنت. اللهم يا مقلّب القلوب والأبصار ثبّت قلوبنا على دينك. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهَّاب. اللهم ثبّتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر. اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلّغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهوّن به علينا مصائب الدنيا، ومتّعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا أبداً ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل الدنيا أكبر همّنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلّط علينا من لا يرحمنا. اللهم بفيضك العميم عمّنا، واكفنا اللهم شر ما أهمّنا وأغمنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسنة جمعاً توفّنا، نلقاك اللهم وأنت راضٍ عنا. وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.
يندر أن نرى في المسلمين أناساً لم يستقيموا على طريق الهدى ولو فترة قصيرة من أعمارهم، ويندر أن نرى فيهم أناساً لم تصْفُ قلوبهم في زمان من الأزمنة. فمعظم المسلمين قد مرّ بزمان صفاء، واستقام لمدة من المدد على طريق الهدى، ولكنْ مشكلة هؤلاء المسلمين التقلّب. ولو قدّرنا أن كل إنسان يسلك طريق الهدى يدوم عليها لكان المسلمون اليوم في حالة قريبة من المثاليّة. فما من مسلم إلا وقد دخل المسجد وصلّى فيه، ولكنه لا يواظب على صلاة الجماعة. فلو أنه دخل المسجد للمرة الأولى فاستمرّ على هذه الصلاة لكانت المساجد تغصّ بالمصلِّين، ولكان المصلُّون يحتاجون إلى المزيد والمزيد من المساجد، ولصلَّوا في الشوارع، ولكنْ يصلّي أناس ثم يخلفُهم آخرون حيثُ الأوّلون لم يثابروا. وهذه المشكلة نراها في هذا الزمان أكثر من غيره من الأزمنة. فالمسلمون محبّون لدينهم، موقنون بأنه هو الحق، صادقون في اتّباع سنّة نبيّهم صلى الله عليه وسلم، ولكنهم يفتقِرون إلى الثبات. فإذا كان الفعل لا يكون فعلاً مقبولاً مرضيّاً من الله تعالى إلا إذا وُجد فيه ركنان، فلا بد من أن يكون الركن الثالث هو الثبات. أما الركنان فهما سداد الظاهر وإخلاص الباطن. فإذا كان الفعل مسدَّداً في الظاهر، وخالصاً لوجه الله في الباطن كان فعلاً مرضياً، ولكن لا ينفع صاحبه حتى يوجد الركن الثالث وهو الثبات. الثبات على الحب، الثبات على الطاعة، الثبات على الاعتقاد. ثبات في العاطفة، وثبات في الفكر، وثبات في السلوك. أما الأفكار فإنها تتقلّب عند الشباب أكثر من غيرهم من شرائح الناس لأن الشابَّ يمرّ بفترة من عمره طابَعها العامّ هو الشك. لذلك هو لا يوقِن بشيء ولا يلبث أن يعتقد به حتى يشك ويجاوزه إلى سواه، فتراه متقلّب الأفكار، يثْبِت يوماً ثم ينفي ما أثبت في اليوم التالي، يصدِّق هذه الساعة ثم يكذِّب في الساعة التي بعدها. تتخاطفه نظريات ودعوات فكرية شتّى، وتراه لا يطمئنّ حتى للحقّ لأنه قد اعتاد الشك. وما هذا إلا لسبب نفسي لأن النفس تمتلك تأثيراً عميقاً جداً على الفكر، وتمتلك تأثيراً قوياً جداً على السلوك. فمَن كان مستقراً من الناحية النفسية سهل عليه تمييز الصواب من الناحية الفكرية، وأما الذي يعاني من أمراض نفسية أو عقد نفسية فإنه يصعب عليه إجراء محاكمات منطقيّة سليمة، ويصعب عليه النظر إلى الموضوعات الفكرية نظراً مجرداً. فالرواسب النفسية الكثيرة تلعب دوراً في التشويش الفكري، وفي تشويه الحقائق أمام العقل. من هنا كان الإصلاح النفسي أساساً للقناعات الفكرية. إذ لا نمتلك إقناع إنسان بالحقّ ما لم تكن نفسه نفساً طبيعية على الأقل، ما لم تكن نفسه نفساً مجرَّدة من الرواسب، مخلاّة عمّا علِق بها ممّا يحول بينها وبين قبول الحق. وقد بيّن الله تعالى أن تغيير النفس هو أساس كل تغيير وأساس كل إصلاح. {إنَّ الله لا يغيِّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم}. فإن غيَّروا ما بأنفسهم استطاعوا الوصول إلى الحقائق الفكريّة، واستطاعوا تغيير الأفعال السلوكيّة، وإلاّ فإن المنطق يمكن أن ينحرف عند أولئك الذين يعانون من انحرافات نفسيّة ومن أمراض في نفوسهم. شبابنا بنسبة كبيرة يعانون من عدم الاستقرار النفسي، من اللااستقرار، من اللاتوازن من الناحية النفسية. ويلعب في ذلك أكثر من عامل دوراً بيِّناً. فمن ذلك الاختلال في التربية الاجتماعية المبدئية. ففي الأسرة الطفل في بدايات حياته لا ينشأ نشأة متوازنة. فالتنشئة النفسية في غالب الأحوال فيها خلل. بعد ذلك التنشئة المدرسية تكرِّس الازدواجيّة في النفس، تكرس الاهتزاز في الشخصية. وإننا لنجد في أسرنا وفي مدارسنا خللاً في التربية النفسية. ينبغي أن يدرُس الأب قبل أن يتزوّج أصول التربية من الناحية النفسية. فعلى سبيل المثال، نجد في الأسرة وفي المدرسة تعليماً للازدواجية، لازدواجية الشخصية، للازدواجية في الوجه. فيتعلم الطِّفل كيف يكون له وجه داخل البيت وآخر خارجه. خارج البيت ينبغي أن يكون حضاريّاً دِبلوماسيّاً على الِإتِكيت، وأمّا في داخل البيت فلا بأس أن يظهر على حقيقته. يعلِّمه أهله: لا تأكل أمام الناس كما تأكل في البيت، لا تتصرّف أمام الناس كما تتصرف في البيت، فتعلم الطفل أن يكون له وجهان. علَّموه ألا يتكلم عن أحد أمامه بسوء. لا بأس أن يغتابه، وأما أن يواجهه بالحقيقة فلا. الغيبة منتشرة كثيراً داخل الأسرة، ولكن من الوقاحة في التربية الأسروية أن تواجه إنساناً بأنه سيّئ، ولو كان ذلك بأسلوب لطيف على سبيل النصح. فالنصح وقاحة، والغيبة أدب وإتكيت. الطفل يتعلّم في بيته هذه الازدواجية ثم يذهب إلى المدرسة فيتعلمها مرّة أخرى بشكل أو بآخر. التربية الأسروية والمدرسية على حد سواء تمارس دوراً سلبياً مع الناجح والفاشل. فالفاشل تُمارس معه علاقة من التثبيط والإهانة وإلغاء الشخصية. فلمجرَّد أن يفشل لمرة واحدة تجد الأنظار كلها قد توجّهت إليه احتقاراً وازدراءاً، وتجد الناس من حوله يوبِّخونه ويعنِّفونه، ولعلهّم فشلوا يوماً ما كما فشل، ولكنْ كلهم صاروا مربِّين، وبالأسلوب ذاته. فإذا بهذا الذي فشل لمرة واحدة يصير فاشلاً إلى الأبد، صنعوا منه إنساناً فاشلاً. وبالمقابل إذا نجح يُمارَس معه دور سلبيّ آخر هو إشباع الغرور. أنت ناجح، أنت عظيم، أنت كذا أنت كذا. وفي الحالتين هذا الطفل ستختلّ شخصيته، وسيكون في تركيبته النفسيّة شرخ كبير. إذاً ثمّة اختلال نفسي في التربية النفسية منذ الطفولة وما بعدها. لذلك هذا عامل كبير يمنع التوازن الفكري. ثم ينشأ الشاب الذي رُبِّي هذه التربية، رُبِّي على آداب اجتماعية بعيدة كل البعد عن التوازن. فيرى أمامه هموماً كبيرة لم يُهيَّأ لتحمّلها سواء أكانت هموماً دراسية أو هموماً اقتصادية أو غير ذلك. فهو يفكِّر كيف سيتزوَّج، وهو يفكِّر كيف سيحصل على الشهادة، وهو يفكِّر كيف سيؤمِّن سبيلاً للرزق، وهو يفكر هل من المفيد أن يسافر إلى بلد آخر بحثاً عن عمل. هذا كلّه يسبِّب عقداً نفسيّة في داخله. المجتمع يفرض عليه أشياء ويحرّم عليه أشياء، ولا يوجد له حلولاً لمشكلاته في كل الأحوال. المجتمع فقط يحرّم ويوجب، ويبقي هذا الشاب ومشكلاته وليفعل بها ما يشاء على أن يلتزم بالقوانين الاجتماعية الصارمة. هذا كلّه يساعد على تنمية العقد النفسية داخل هذا الإنسان. فإذا توجّه التوجُّه الفكريّ فإنه لن ينفصل عن كل تلك المشكلات النفسية التي نشأ منذ نعومة أظفاره عليها، والتي تشرّبها مع حليب أمه. فسوف يتعامل مع الأمور المنطقيّة تعامل إنسان مشوَّش. لذلك لن تكون عنده تلك المنطقيّة، وذلك الصفاء الذي يعينه على أخذ الحقيقة ببساطتها وعفويَّتها وفطريَّتها. لذلك صرت ترى عند الشباب تعقيدات في أفكارهم، وتعقيدات في حواراتهم. وما هذه التعقيدات الحوارية الفكرية إلا ثمرات للتعقيدات النفسية. بالمقابل لو رأيت شابّاً متوازناً مطمئنّاً، بمعنى آخر على فطرته، وعلى بساطته، مرتاح، لا يحمل في نفسه تلك العقد، بل نفسه بيضاء ليست فيها نقاط سوداء فضلاً عن أن تكون رمادية أو سوداء خالصة، نفسه مستوية ممهدة ليست فيها تجاعيد ووهاد فضلاً عن أن تكون كلها جبالاً وأودية، لو رأيت هذا الشابّ لرأيت التعامل المنطقيّ معه سهلاً. تعطيه الفكرة فيأخذها بكل بساطة، ويستوعبها مادامت منطقية دون أن يبحث عن تعقيدات لها. إذاً التوازن الفكري ثمرة للتوازن النفسي. فإذا أراد الإنسان أن يكون منطقياً في تفكيره فليحاول أن يبدأ بتخليص نفسه من العقد النفسية الكامنة فيه. قد يقول: ليس فيَّ عقد، وقد يكون صادقاً، ولكنْ في غالب الأحوال الإنسان يتمنّى ألا تكون فيه عقد، فيقول: ليس فيَّ عقد دون أن يبحث، وفي غالب الأحوال يكون فيه. فلو بحث ولم يجد ثم قال ذلك لصدق، ولكنْ لوبحث لوجد في الغالب. فإذا وجد فليصلح، فإذا أصلح وحلّ العقد سهُل عليه التعامل مع المسائل المنطقية وفهم الشيء على بساطته. ومن هنا جاء الإسلام أوّل ما جاء لقوم عرب. لم ينزل الإسلام على الأعاجم لأن الأعاجم قد تعقّدت أفكارهم بسبب أمراض نفوسهم، أما العربيّ فإنه يعيش بين الأرض والسماء، يعيش على بقعة مترامية الأطراف من الصحراء، لا يحجبه عن السماء بنيان عظيم شامخ، ولا تهمّه زخارف الحياة المادّيّة، بل إنه صافٍ صفاء السماء الزرقاء من فوقه، منبسط انبساط هذه الصحراء الشاسعة من أمامه. فنفسه نفس بسيطة على فِطْرتها، لذلك فِكْره فكر منطقي عقلانيّ يسهل عليه قبول الحقيقة المجرَّدة دون أن يعقِّدها. فها هو ذا أعرابي يقول: (البَعْرة تدلّ على البعير، وأثر الأقدام يدلّ على المسير. أفسماء ذات أبراج، وأرض ذات فِجاج، وبحار ذات أمواج، ألا تدلّ على العليّ القدير؟). هذه البساطة في التفكير ثمرة للبساطة في النفس. فنفسه لم تتعقّد كما تعقّدت نفوس الأعاجم. لذلك جاء الإسلام للعرب لا للأعاجم لأنهم أقدر الناس على فهم هذه الرسالة كما أنزلها الله تعالى، وعلى فهم المقصود دون أن يزيدوا عليه أو أن ينقصوا أو يغيّروا أو يبدّلوا. نعود إذاً إلى الثبات، وأول أشكاله الثبات الفكري. الثبات الفكري يكاد يغيب في هذا الزمان عندما نجد شباباً يتقلّبون بين خطأ وخطأ، بين صواب وخطأ، هذا التقلّب ينافي الثبات. أما لو انقلبوا عن خطأ إلى صواب فهذا لا يضير الثبات المحمود، بل إنه يتنافى مع الجمود المذموم. فالجمود أن ترى الخطأ وتعرف أنك عليه، ومع ذلك لا تغيّره، فهذا جمود. وأمّا إن علمت أنك على خطأ وغيرت الصواب فهذا لا ينافي الثبات. إذاً تقلب أفكار شبابنا سببه عدم استقرار نفوسهم، ولو استقرّت نفوسهم لعرفوا الحق، وإذا عرفوا الحق داموا عليه، ولكن كما قلت: النفسية العامة لشباب هذا الزمان قائمة على الشك. فهو نادراً ما يوقن بشيء ويمضي فيه إلى نهاية الطريق. متى يستطيع ذلك؟ عندما يعود إلى فطرته، ويتخلّص من أمراض هذا الزمان. (عرفْتَ فالْزَم). ثبات محمود مطلوب. الثبات السلوكي مشكلة أخرى هي أقلّ خطراً من المشكلة الأولى. الثبات الفكري هو الأهم، فإذا وُجد عند امرئ الثبات الفكري على ما ينبغي، إذا ثبتَّ على فكرة الحق وعلى فكرة صائبة، ولكن قصّرت في الالتزام السلوكي بهذه الفكرة، فهذه مشكلة مجبورة يسهل تداركها لأنك أخذت مساراً ما، فلا يضيرك إن تأخّرت بعض الشيء في المسير على هذا المسار. أشبّه لك هاتين المسألتين بالتشبيهين الآتيين: عندنا طريق هي وحدها الطريق الصائبة، الطريق الصحيحة. وسُبُل أخرى، سبل مخطئة، سبل الباطل. في البداية يحتاج المرء إلى أن يقرّر المسير على طريق ما من هذه الطرق، وألا يتنقّل بين طريق وأخرى بسبب الشك غير المبرر أو بسبب اللامبالاة وعدم الجِدّية. فالتقلّب الفكريّ له أسباب. أحياناً يكون سببه الشك وعدم الاستقرار كما ذكرت، وأحياناً أخرى يكون سببه عدم الجدية في البحث عن الصواب. فهو لا يهتمّ كثيراً في أن يكون هذا الاتجاه صواباً أو خطأً، هو ينوّع ويغيّر ويجدّد. فهذا الذي يتنقل بين الطرق يضيع ولا يصل. ولكن آخر استقرّ على الطريق الصائبة، الطريق المثلى. فهو امتلك الثبات الفكري، ولكنه على هذا الطريق ذاته يمشي أحياناً ويتوقف أحياناً أخرى، يمشي أحياناً بسرعة وأحياناً أخرى يتباطأ في المسير. هذا مشكلته أقل خطراً من مشكلة الآخر الذي يتنقّل بين الطُرق. هذا الذي لا يمتلك الثبات السلوكي. هو سائر على الطريق معتقد بصوابها، ولكنْ قد يقصّر ويتباطأ أحياناً في المسير. فهذا لا يضيره كثيراً مادام اعتقاده جازماً بأن الطريق هذه هي الصائبة، ولكنْ الثبات أفضل. فقد كان أحبّ العمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أدومه وإن قل. إذاً كان يحب الثبات السلوكي. (أحب العمل أدومه وإن قل)، كما رُوي: (قليل دائم خير من كثير منقطع). هذا ثبات، ثبات على السلوك، هذا يأتي بعد الثبات على الفكرة. (قليل دائم خير من كثير منقطع). عليك أن تحاسب نفسك على هذين الأمرين مبدئياً. هل عندما تجد الفكرة فكرة صائبة تثبُت عليها، وتنافح عنها، وتستعدّ لفدائها والتضحية في سبيلها أم إنك مُذَبْذَب؟ المؤمنون ثابتون، وأما المنافقون فقد وصفهم الله تعالى: {مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً}، فهم مذبذبون لا يثبتون. فهل أنت مذبذب أم ثابت؟ أنت ثابت معتقد تماماً بأن هذا الفكر هو الفكر الصحيح. هل أنت مواظب على تطوير نفسك ضمن هذا السياق؟ هل أنت اليوم خير منك أمس؟ وهل تنوي أن تكون غداً خيراً منك اليوم؟ (من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان أمسه خيراً من يومه فهو محروم، ومن لم يكن في زيادة فهو في نقصان، ومن كان في نقصان فالموت خير له)، كما رُوي في حديث ضعيف السند، وهذا الحديث من الحكم البالغة البليغة النادرة. (من استوى يوماه فهو مغبون). هذا ثبات مذموم لأنه جمود. (ومن كان أمسه خيراً من يومه فهو محروم). هذا تراجع وتأخر يتنافى مع الثبات. (ومن لم يكن في زيادة فهو في نقصان، ومن كان في نقصان فالموت خير له). كنت مواظباً على صلاة الجماعة فترة من الزمان، هل أنت اليوم هكذا؟ كنت تحضر في كل يوم مجلس علْم، هل أنت اليوم هكذا؟ كنت تدعو إلى الله تعالى، واهتدى على يدك كثيرون، هل أنت اليوم بالحماس نفسه؟ هل تمتلك النشاط ذاته الذي امتلكته يوماً من الأيام في الدعوة إلى الله أم إنك فترَتْ همّتك؟ هل فتور همتك سببه تذبذب فكرك أم إن فكرك ثابت، والهمة وحدها فترت؟ هذه مسألة مهمة، حدِّد السبب. إن كان سبب فتور الهمة في الدعوة إلى الله أنك تذبذب فكرك وصِرْت تشكّ، إذاً عليك أن تحسم أمرك وتحدِّد موقفك. فلا ينبغي أن تبفى مذبذباً بين ذلك، عليك أن تتَّبع الصواب جازماً لا شاكاً. أما إذا كان السبب مجرّد فتور الهمّة فإن هذا أمر يطمئن أن الفكر لم يتذبذب، ولكن مع ذلك مشكلة ينبغي إصلاحها، ينبغي إيجاد حلّ لها. تقول: أنا لا أجد عندي الهمة التي كانت من قبل. سابقاً كنت أفيض فيضاً بشدة حبّي وتعلقي فأدعو إلى هذا المبدأ أو ذاك، أما الآن فلا. لا بأس، الإنسان يمتلك فورات، ولكن لا ينبغي أن يبقى محكوماً لهذه الفورات. تقول: أنا حبّي لم ينقص، لم يقِلّ، ولكن كانت عندي فورَة وانتهت. لا أعرف ماذا أفعل؟ حبي هو هو، واعتقادي راسخ جازم. إذاً لا ينبغي أن تُحكم لهذه الفورات. مادام اعتقادك راسخاً، وحبّك صادقاً فلتصنع أنت فورة طويلة الأمد لا تنتهي، ولا تدع الفورة التلقائيّة يتيمة لا أخ لها، وعقيمة لا تنجب فورة أخرى بعدها. لا تنتظر الفورة التلقائية بل عليك أن تصنع أنت الفورة الإرادية، وهذه الفورة الإرادية لا ينبغي أن تنقطع أبداً. إذاً مادمت تعتقد، وما دمت تحب فعليك أن تفعل. ولو لم يخرج الفعل تلقائياً فاصنع الفعل أنت بنفسك.
ثم الثبات العاطفي. الثبات على الحب مسألة أخرى يعاني منها كثيرون في هذا الزمان. تجد صديقين يتماشيان، وقد ملك واحد منهما على الآخر قلبه، والآخر كذلك، تقول: ليس فوق هذا الحب حب. وما هي إلا شهور حتى ترى واحداً منهما لوحده، تقول: ما فعل فلان؟ يقول لك: دعني منه. إنسان فاجر خائن لا ذمة له، لا عهد له. الله أكبر! ماذا حدث؟ لم هذا الانقلاب؟ هذا الانقلاب سببه أن الحب لم يكن صادقاً فأعقب بغضاً، ولم يكن عاقلاً فانقلب على أصحابه. لذلك حاول أن تحب ما تعتقد به، ومن تعتقد فيه لأن الحب إن جانب الاعتقاد، ولأن العاطفة إن جانبت الفكر فسوف تنقلب، ولن تدوم. القوانين الفكرية ثابتة، وأما العواطف فإنها تكون في الشرق فتصير في الغرب. ما بتشعر كان عبيتضحك بوشك قام يسبك. أي شلون هيك صار معو؟ أي العاطفة هكذا. بقلك فلان مالو أمان، اليوم صاحبي بكرة عدوي.
أحبب صديقك هوناً ما فعسى يكون عدوك يوماً ما
أبغض عدوك هوناً ما فعسى يكون صديقك يوماً ما
إذاً العواطف تتقلب، ولكن لو ربطتَ العاطفة بالفكر لثبتت العاطفة مادام الفكر ثابتاً بما أنك معتقد بهذا المبدأ أو بهذا الشخص، فأنت تحبه. اعتقادك به ثابت، ثبات فكري. لذلك لا بد أن يبقى حبك له ثابتا. طيِّب، هذا الحب الثابت هل يزيد أو ينقص؟ نعم عند الإنسان العادي يزيد وينقص. أما عند المسلم الصادق فإنه يزيد ولا ينقص، يزيد ولا ينقص. فإذا نقص الحب عندك في قلبك لشيء ما تعتقد به، يعني لم ينقلب الحب إلى بغض، هذا شيء تعتقد به أو شخص تعتقد فيه وتحبه، ولكن وتيرة الحب قلّت بعض الشيء، فهذا يدل على عدم الصدق أو ضعف الصدق في الحب لأن الصدق لا يزيد الحب إلا توقُّداً وجيشاناً، وأما إذا انتفى الصدق فإنها فورة لا تلبث أن تنطفئ. وكلما رأيتُ من إنسان من هؤلاء البشر حباً كبيراً عظيماً أتوجَّس خيفة. أقول: قد يكون إنساناً عادياً صاحب فورة لذلك أحذر، أحذر كثيراً ولا آمن جانبه. فقد لا يدوم هذا الحب، وقد ينخفض كثيراً، وقد يزول. في حالات نادرة رأيتُ أشخاصاً متخلقين بأخلاق الإنسان المثالي، قريبين من التوازن الإنساني والتهذيب الإسلامي. فلذلك ما رأيت حبهم إلا يزيد يوماً إثر يوم. هؤلاء ندرة في الناس، قلة إذا وُجد واحد منهم واطلعت عليه فحاول ألا تفرِّط في حبه لأنهم قلة قلة، وإذا حظيتُ من هذه الدنيا كلها بواحد منهم لكفاني. يمتلك الحب الصادق الثابت الذي تزيده الأيام توقداً كما قلت وصدقاً. من لم يكن صادقاً في حبه زيادة القرب تمله، وزيادة البعد تنسيه. وأما من كان صادقاً في حبه فإن القرب يزيده حباً، والبعدَ يزيده شوقاً. هؤلاء قلة. قد يُوجد إنسان يزيده القرب حباً والبعد شوقاً لشهر ما، لسنة مثلاً، ولكن أن يكون هكذا لزمان لا ينتهي فهذا هو الإنسان، وهذا هو المسلم الثابت الصادق. إذاً لكل عمل إنساني فكراً كان أو عاطفة أو سلوكاً مقومات. مقومان فيه، والثالث بعده يحافظ عليه. الإخلاص والسداد ليصح العمل الآن، والثبات ليستمر العمل بعد هذا الآن. الثبات، الثبات على فكر أيقنتَ بصحته، والاستقامة في السلوك على ما يوافق هذا الفكر، والإخلاص والصدق في الحب لمَا اعتقدت به على أن تزيد من هذا الحب يوماً إثر يوم لأن الماء الراكد يحمل الخبث. فإذا كان حبك راكداً لا يجري ولا يزداد ولا منبع يغذّيه فسوف يحمل الخبث. وأما إذا ازداد يوماً بعد يوم فإنه لن يفتأ متجدداً متنشطاً لا يعكر صفوه معكر. فابحث عن نفسك في هذه المسائل فإنها كلمات، على قلتها، تنفع إن شاء الله تعالى. ففكر فيما قلت، وأعد النظر في حساباتك، وقل: هل أنا من الناحية الفكرية ثابت أم متذبذب؟ وإذا كنتُ مواظباً على مبدأ اعتقدت به لسنوات ثم صرت أشك فيه من حيث لا يُشك فأين أنا من الثبات؟ وأين أجد الحقيقة الوهمية التي أبحث عنها؟ إذا الحقيقة لم تقنعني بعد أن أقنعتني لسنين، بدأت أبحث عن شكوك وهمية فأين أجد تلك الحقيقة الوهمية التي لا وجود لها، والتي لا يمكن أن أشك فيها؟ ثم إذا اعتقدتُ هذا الحق، ولم أثبت عليه فما فائدة وجوده أمامي إن لم أخلص في الاستقامة عليه؟ ثم إذا لم أحبَّه أو إذا أحببته حباً فتر بعد مرور الزمان فماذا قدمت لهذا المبدأ الصواب الذي وجدته إن لم يكن حبي له زائداً متجدداً زماناً إثر زمان؟
أمور ثلاثة، أسئلة ثلاثة أوجد لنفسك الجواب عليها، وكفى. والحمد لله رب العالمين.
******* |