التوحيد > الدّرس الثّالث: توحيد الاعتقاد وتوحيد الدّعوة
الدّرس الثّالث: توحيد الاعتقاد وتوحيد الدّعوة

الدرس الثالث: توحيد الاعتقاد وتوحيد الدّعوة
في 13 / ذو / القعدة / 1421 هـ
7 / 2 / 2001 م

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمد لله ربّ العالمين، وأفضل الصّلاة وأتمّ التّسليم على سيّدنا محمّدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللّهمّ لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللّهمّ لك الحمد ملء السّماوات وملء الأرض، وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيءٍ بعد، لك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، لك الحمد حتّى ترضى، ولك الحمد بعد أن ترضى، اللّهمّ تبرّأنا إليك من أنفسنا ولجأنا إليك، لا توجّه قلوبنا إلاّ إليك، ولا تجعل اعتمادنا إلاّ عليك، اللّهمّ تبرّأنا إليك من حولنا وعلمنا وقوتنا، ولجأنا إلى حولك وعلمك وقوتك، فإنّك أنت القويّ ونحن الضّعفاء، وإنّك أنت الغنيّ ونحن الفقراء، وإنّك أنت العزيز ونحن الأذلاء، وإنّك أنت القدير ونحن العاجزون، وإنّك أنت العليم ونحن الجاهلون، وإنّك أنت علام الغيوب، ربّنا لا تكلنا إلى أنفسنا ولا إلى غيرك طرفة عينٍ ولا أقلّ من ذلك، وأصلح لنا شأننا كلّه في الدّين والدّنيا والآخرة، اللّهمّ إنّك عفوٌّ تحبّ العفو فاعف عنّا، ربّنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين، لا إله إلاّ أنت سبحانك إنّا كنّا ظالمين. ربّنا اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللّهمّ اغفر لنا ما قدّمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنّا، وما أسرفنا وما أنت أعلم به منّا. أنت المقدّم وأنت المؤخّر، لا إله إلاّ أنت لك الملك ولك الحمد، اللّهمّ ارحمنا فإنّك بنا راحم، ولا تعذّبنا فإنّك علينا قادر، والطف بنا فيما جرت به المقادير. اللّهمّ اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أعمارنا أواخرها، وخير أيامنا يوم نلقاك. اللّهمّ أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفّنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا، اللّهمّ أصلح لنا ديننا الّذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا الّتي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا الّتي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كلّ خير، واجعل الموت راحةً لنا من كلّ شرّ، اللّهمّ بفيضك العميم عمّنا، واكفنا اللّهمّ شرّ ما أهمّنا وأغمّنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسّنّة جمعاً توفنا، نلقاك اللّهمّ وأنت راضٍ عنّا، نلقاك اللّهمّ وأنت راضٍ عنّا، نلقاك اللّهمّ وأنت راضٍ عنّا، وصلّ اللّهمّ على سيّدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلّم.
قبل أن ندخل في صلب علم التّوحيد ارتأيت أن نجعل حديث اليوم حول أساس التّوحيد، وأساس العلاقة بين العبد وربّه، فقد علمنا أنّ علم التّوحيد ( أو علم الكلام ) هو علمٌ يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانيّة بالأدلة العقليّة، والرّدّ على أصحاب البدع في العقيدة والمنحرفين عن عقيدة السّلف وأهل السّنّة، فهو علمٌ للدعوة إذاً وليس علماً للاعتقاد، فهناك إذاً توحيد اعتقادٍ وتوحيد دعوة.
فتوحيد الاعتقاد لا يحتاج إلى هذا التّعقيد المنطقي الّذي يستخدمه علماء الكلام، وعلماء ما يسمّى بعلم التّوحيد، توحيد الاعتقاد أُسُّه الفطرة ووسيلته العقل، فالفطرة هي الأساس الّذي يعرف الله جلّ وعلا، ويوحّده من دون أدلّة ومن دون براهين، ثمّ يسنده العقل فضلاً عن الفطرة، فيقوى الإيمان ويزداد إذ تجتمع الفطرة والعقل معاً، ولكنَّ العقل الّذي يقوي إيمان الاعتقاد إنّما هو تلك الحقائق المنطقيّة والمسلّمات العقليّة الثابتة، الّتي لا تحتاج إلى الفلاسفة حتّى يثبتوها، ولا تحتاج إلى المناطقة حتّى يقرّروها، إنّما هي أصولٌ ومبادئ يعرفها العاقل بعقله المجرّد السّليم، فلا تعقيد منطقيّاً يحتاجه توحيد الاعتقاد.
وأمّا توحيد الدّعوة فإنّه يحتاج إلى التّعقيد المنطقيّ، وذلك لأنّه ردٌّ على الملحدين والضّالين في الفكر والاعتقاد ممّن امتلكوا أسباباً للكفر، وجب علينا أن نقابلها بأسبابٍ مطابقةٍ في الدّعوة، فأسباب كفرهم كانت العقل وإن كان عقلاً ضالاً، فوجب أن نردّ على كفرهم بعقلٍ مهتدٍ، هم كفروا بسبب المنطق الفاسد فوجب أن ندعوهم إلى الإيمان بالمنطق الصّحيح، وذلك من باب مقابلة الشّيء بمثله، وذلك من باب مداواة المرض بالدّواء الّذي يناسبه.
الأصل إذاً أنّ المسلم إذا أراد أن يوحّد ربّه فليس محتاجاً إلى علم التّوحيد، بمعنى العلم المدون الّذي فيه هذه المحاكمات المنطقيّة المغرقة في المنطق والعقل، إنّما هو محتاجٌ إلى شيءٍ آخر، محتاجٌ لأن تكون فطرته صاحيةً غير نائمة، ولا نقول أن تكون حيّةً غير ميتْة لأنّ الفطرة لا تموت، الفطرة قد تنام وقد تمرض وقد تضعف ولكنّها لا تموت أبداً؛ وذلك أنّ المرء مهما بلغ في ضلال فكره فإنّه وقبل لحظةٍ واحدةٍ من موته قابلٌ لأن يعود إلى الله جلّ وعلا، لأنّ الفطرة جوهرٌ أصليٌّ في الإنسان لا يمكن أن تذهب به صروف الزّمان، فمن كان يتصّور أن رجلاً مثل ( خالد بن الوليد ) يصير سيف الله ورسوله؟! ومن كان يتصّور أن رجلاً مثل (عمر بن الخطّاب) يصير الفاروق الّذي يفرق بين الحقّ والباطل؟! ومن كان يتصّور أن رجلاً مثل ( سُهيل بن عمرو ) يقف منافحاً عن الإسلام معنّفاً المرتدّين وضِعَاف الإيمان؟! وهؤلاء كلّهم كانوا على طرف آخر قبل أن يسلموا.
عمر بن الخطّاب كان في أقصى اليسار فانتقل إلى أقصى اليمين، عمر بن الخطّاب كان يعذّب المسلمين ويقسوا عليهم في تعذيبه، حتّى إنّه كان يعذّب جارية لبني مؤمّل من بني عديّ؛ فكان يعذبها إلى أن يتعب من شدّة التّعذيب فيدعها وهو يقول لها: أعتذر إليك إنّي لم أدعك إلا ملالاً… ( لا تظنّي أنّي أشفقت عليك، تركتك لأنّني تعبت من كثرة ما عذبتك ) فيمر بها أبو بكر عليه رضوان الله ويراها على تلك الحال، يقول: ارفق بها يا ابن الخطّاب، يقول أنت الّذي أفسدتها فخلّصها ممّا ترى، فيشتريها أبو بكر بماله ويعتقها لوجه الله… يمرُّ عمر بن الخطّاب بامرأةٍ من المسلمين، وكانت تستعد وزوجها للهجرة إلى الحبشة فيقول: أين تريدون؟ تقول: نريد الحبشة، فوالله لقد عذّبتمونا حتّى بلغ منّا الجهد، لذلك ندع لكم دياركم ونمضي إلى أرضٍ نعبد الله تعالى فيها. فتظهر ملامح التّألم والأسى على عمر بن الخطّاب، وتحفظ المرأة من عمر تلك الملامح، لأنّها غريبةٌ لم تظهر قبل ذلك، يعود زوجها تقول له: لقد رأيت من عمر بن الخطّاب كذا وكذا. فيقول زوجها: وهل طمعت في إسلام عمر بن الخطّاب؟ قالت: نعم. قال: والله لا يسلم حتّى يسلم حمار الخطّاب! عمر بن الخطّاب يسلم! والله لا يسلم حتّى يسلم حمار الخطّاب.
وأمّا خالد فلقد كان سبباً من أسباب هزيمة المسلمين في أحد، فمن كان يتصّور أن يصير خالدٌ سبباً من أسباب انتصار المسلمين في اليرموك؟!
وأمّا سُهيل بن عمرو فلقد كلّم النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام يوم الحديبية بما لا يليق، وهمّ عمر بأن يبطش به، وأراد أن ينزع ثناياه، فقال له رسول الله عليه الصّلاة والسّلام: [ لا يا عمر لعلّه يقف موقفاً لا تذمُّه ]. فلمّا قُبض النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام، وهاج النّاس وماجوا وصار فيهم ذلك الهرج فأسكتهم أبو بكرٍ في المدينة، كان سُهيل بن عمرو يفعل الشّيء ذاته في مكّة، فكان يقول لهم مثل ما قال أبو بكرٍ في المدينة المنورة: ( من كان يعبد محمّداً فإنّ محمّداً مات، ومن كان يعبد الله فإنّ الله حيّ لا يموت )…
من أين خرجت هذه العبقريات الفذّة من هؤلاء الأشخاص وهم الّذين كانوا في أقصى دركات الكفر؟ من داخلهم، لم يأتهم الإيمان مستورداً بل لقد خرج من دواخلهم…
سحرة موسى كيف كانوا ثمّ كيف صاروا؟ لقد كان انقلاباً حادّاً، تغيّراً جذريّاً لم يكن فيه تدرّج، لأنّ العاقل إذا عرف الحقّ أسرع في اتّباعه ولم يقل أتّبعه بالتّدريج، إمّا ( مع ) وإمّا ( على )، إمّا أن تكون مع الحقّ أو على الحقّ، إمّا مع الحقّ على الباطل أو على الحقّ مع الباطل، منذ قليل كان السّحرة يقولون: { أَئِنَّ لَنَا لأجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * } قبلها كانوا يقولون: { قَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى * } صاروا يقولون { بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ * } فلما وَقَعَ الْحَقُّ { وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * } قالوا كلاماً لا يخرج إلا مع الفلاسفة، قالوا كلاماً تظنّ إذا سمعته أنَّ هؤلاء القوم صحبوا الأنبياء سنين، وتعلموا منهم أعظم الحكمة { فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى * قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الّذي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ وَلاُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى } فماذا أجابوا؟ { قَالُوا لَن نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالّذي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيى * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى * } متى حفظ السّحرة هذا الكلام؟ ليس هذا الكلام مستورداً، ليس هذا الكلام مُتعلَّماً، هذا الكلام صادرٌ غير مستورد، هذا الكلام خرج من الفطرة المؤمنة…
فالفطرة إذاً جوهرٌ أصليٌّ في الإنسان مهما خفي فإنّه يُحتمل أن يظهر، يظهر إذا أتت على المرء شدّةٌ أذهلته وأنسته الكفر الّذي تعلّمه في بيئته؛ فتستيقظ الفطرة المؤمنة الّتي في داخله { وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ } فيصير في المرء مثل ما صار في ذلك الرّجل الّذي كان راكباً في طيارته، وكان معانداً مستكبراً يتكلّم عن الله تعالى بعقلٍ مريضٍ ومنطقٍ فاسد فينكر وجود الله، ويتكلّم بمنطق الماديّ الوجوديّ الملحد، ودخلت الطّائرة في مطبٍ جويّ، وجعلت الطّائرة تتراقص كتراقص الرّيشة في مهب الرّيح، وأيقن النّاس بالهلاك، وارتفعت الأكف إلى السّماء، وعلت الأصوات إلى خالق السّماء، وضرعت القلوب إلى الله سبحانه، كلّ ينادي: ( يا ربّ يا ربّ يا الله… ) ورأى الرّجل نفسه غريباً وحيداً ضائعاً، فالكافر وحده هو، ومن عداه مؤمنون، فصار أشبه بالطّفل اليتيم مع أطفالٍ كلّ معه أبوه وكلّ يفزع إلى أبيه عند الشّدّة، إلاّ هو فإنّه لا أب له فهو يشعر بمرارة اليتم، هذا إذا فقد أباه فكيف إذا جهل ربّه، عندها استيقظت فطرة الرّجل؛ فإذا به بغير شعور يرفع يديه، وبغير شعور يعلو صوته وينادي: يا ربّ يا الله يا الله. يلتفت إليه صاحبه يقول: ألا تقول ليس للكون خالق والكون وُجد بمحض صدفة، والطّبيعة والمادّة… وما إلى هنالك؟! يقول: يا أخي هنا أيقنت ألاّ إله إلا الله… الفطرة إذاً قد تستيقظ بشدّة.
وقد تستيقظ إذا صحا العقل من سباته وتحرّر من قيوده، قد يعود المرء بذلك إلى فطرته بعد أن طال تغييبها، وبعد أن طال مرضها وسباتها، فالفطرة إذاً لا تموت، فمهما رأيت من كفرٍ وعتوٍّ وطغيان من رجلٍ فلا تيئس منه، بل اعلم أنّ في جوهره فطرة.
الدّعوة إلى الحقّ أسهل من الدّعوة إلى الباطل، وإن كانت الدّعوة إلى الباطل أسهل من الدّعوة إلى الحقّ من وجوه أخرى، الدّعوة إلى الباطل دعوةٌ إلى شيءٍ لذيذ سهلٍ ممتع، والدّعوة إلى الحقّ دعوةٌ إلى شيءٍ صعب، وهذا منطقيّ أنّ كلّ شيءٍ يغلو يصعب تحصيله، وكلّ شيءٍ يرخُص يسهل ويكون متناولاً لكلّ يد، ألا تجد أنّ على سطح البحر زبداً كثيرا، ألا تجد أنَّ على سطح البحر أوساخاً ورغوةً لا قيمة لها، ثمّ ألا تجد أن الدّرّ واللّؤلؤ والمرجان لا تجده إلاّ في الأغوار، فلا تحصل عليه إلاّ ببذل جهد، من هذا المنطلق الدّعوة إلى الباطل أسهل من الدّعوة إلى الحقّ، كما أن الخراب أسهل من العمار، الهدم سهل جداً وأمّا البناء فهو أصعب، ولكن من وجهٍ آخر الدّعوة إلى الحقّ أسهل، لأنَّ الدّعوة إلى الباطل: إيرادٌ لشيءٍ دخيلٍ غريبٍ على هذا الكائن الفطريّ الإنسانيّ. وأمّا الدّعوة إلى الحقّ فإنّها: إخراجٌ لشيءٍ جوهريٍّ أصيل في داخل هذا الكائن الفطريّ الإنسانيّ.
فالإيمان والتّوحيد إذاً فطرةٌ في الأصل؛ يساعد على هذه الفطرة منطقٌ بسيطٌ سهلٌ هو الّذي أقرّه القرآن الكريم في آياته الكثيرة، فالمسلم إذاً يحدّد علاقته بالله جلّ وعلا على أساس فطرته وعلى أساس منطقه السّليم، أوّل مظهرٍ من مظاهر علاقة العبد بربّه المعرفة { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إلاَّ الله } إذ كيف يعبد من لا يعرف؟! فإذا عرفه أحبّه، ثمّ إذا أحبّه عبده، وإذا أخطأ في هذا التّرتيب فسوف تكون الثّمرات فاسدة، معرفةٌ فحبٌّ فعبادة، لابدّ من أن تعرف الله جلّ وعلا معرفةً دقيقة، فكيف تعرفه وأنت ما رأيته؟ وكيف تعرفه وأنت ما سمعته؟ وكيف تعرفه وأنت ما علمت تفاصيل ذاته؟ تعرفه: بآثاره وأفعاله سبحانه.
الأعرابيّ ذو المنطق البسيط كان منطقه هادياً له إلى الله عندما قال: البعرة تدلّ على البعير، وأثر الأقدام يدل على المسير، أفسماءٌ ذات أبراج وأرضٌ ذات فجاج وبحارٌ ذات أمواج ألا تدل على العليّ القدير؟.
فوا عجباً كيفَ يعصي الإلهَ * أمْ كيفَ يجحـدُهُ الجاحـدُ!
وفي كلِّ شـيءٍ لـهُ آيـةٌ * تـدلُّ علـى أنَّـهُ واحـدُ
فإذا تعمّقت صلته بالله أكثر، وازدادت معرفته لله أكثر، انفصل عن الأدلّة وارتبط بالمدلول عليه سبحانه وتعالى، لأنَّ الله في حقيقة الأمر لا يحتاج إلى أدلّة، لأنّ الله سبحانه خالق، والكون مخلوق؛ فإن جاز أن يدلّ الخلق على المخلوق فذلك في البداية، وأمّا في نهاية المطاف فلا بدّ من أن يرتبط المرء بالخالق وينفصل عن المخلوق.
فوا عجباً كيفَ يعصي الإلهَ * أمْ كيفَ يجحـدُهُ الجاحـدُ!
وفي كلِّ شـيءٍ لـهُ آيـةٌ * تـدلُّ علـى أنَّـهُ واحـدُ
هذه البداية، ولكن بعد ذلك:
يقـولـونَ أيـنَ الـدّليـلُ * عليـكَ فمــاذا أقــولُ؟
وأنــتَ الـدّليـلُ علينـا * وأنـتَ الـرّحيـمُ الجليـلُ
نحن ندلّ عليك؟! الخلق يدلّ على الخالق؟! هذا منطقٌ بسيط، ولكنّ الأعمق من ذلك والأسمى أنّ الخالق يدلّ على الخلق:
يقـولـونَ أيـنَ الـدّليـلُ * عليـكَ فمــاذا أقــولُ؟
وأنــتَ الـدّليـلُ علينـا * وأنـتَ الـرّحيـمُ الجليـلُ
وهذا هو الفارق بين الإيمان العقليّ المجرّد؛ الّذي يربط المدلول عليه بالدّليل وبين الإيمان الفطريّ الّذي يعرف المدلول عليه وإن بغير دليل.
الاكتفاء إذاً بالإيمان العقليّ خطأ فاحش، أمّا أن يكون العقل داعماً ومقوّياً للفطرة فهذا مقبول؛ فالفطرة إذاً هي الأساس.
علاقة العبد بربّه لها درجاتٌ ثلاث: خوفٌ ورجاءٌ وحبّ. والتّوحيد مظلّة لهذه العلاقات الثّلاث كلّها: خوفٌ ورجاءٌ وحبّ؛ فالرّهبة هي الأدنى، والرّغبة أعلى منها، والمحبّة هي أعلى العلاقات الثّلاث، عبدٌ يعبد الله جلّ وعلا خوف العقوبة، وآخر يعبده رجاء المثوبة، وثالثٌ يعبده حبّاً في ذاته سبحانه؛ فهو لم يتعلّق لا بثوابٍ ولا بعقاب، وما أشبه هذا بأمثلتنا البشريّة ولله المثل الأعلى، خذ مثلاً لذلك: والدٌ قال لولده: ( يا بنيّ إنّي أحبّك وأنت تحبّني، ومن أجل أنّك تحبّني قم فاجتهد وذاكر دروسك ). فإن كان الطّفل من هذه الرّتبة - من رتبة أهل الحبّ - فإنه يستجيب دون أن يحيج الوالد لأن يثنّي الأمر، هو يحبّه لذلك أسرع بالاستجابة، إن لم يكن من أهل هذه الدّرجة ولم يستجب، يقول له ثانيةً الأب: ( يا بنيّ قم فذاكر دروسك… لأنّك إن فعلت فسوف آتي لك بما تحبّ من حلوى ومن ألعابٍ ومن كلّ ما تريد… ). فإن كان من أهل هذه الرّتبة استجاب الطّفل، وإلاّ انتقل الأب إلى الدّرجة الثّالثة الدّنيا، يقول له: ( يابنيّ قم فذاكر دروسك لأنّك إن لم تفعل فوالله لأفعلنَّ بك كذا وكذا… ). عندها يفهم هذا الطّفل، إن فهم بهذا الأسلوب فقد تحقّق المطلوب، ولكن إن لم يفهم حتّى بهذا الأسلوب عندها خرج من دائرة العقلاء، وكذلك البشر مع ربّهم؛ واحدٌ يعبد الله لأنّه ربّه صاحب النّعمة عليه، وآخر يعبد الله لأنّ الله يكافئه إن عبده، وثالثٌ يعبد الله لأنّ الله يعاقبه إن لم يعبده، وما أبعد هؤلاء عن بعضهم! واحدٌ تعلق بنارٍ خوفاً أو بجنةٍ طمعاً، وواحدٌ تعلق بالذّات الإلهيّة حبّاً وشوقاً، كما قالت رابعة العدويّة: ( إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك، ولكن عبدتك لأنّك إلهٌ تستحقّ العبادة ) اعترض البعض على هذا فقالوا: وهل رابعة العدويّة أفضل من الأنبياء وقد قال الله تعالى في الأنبياء: { وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً } فقلنا: إنّ عبادة الحبّ لا تنفي الرّجاء والخوف، ولكن تسمو عليهما مع عدم إهمالهما. فالذّي يعبد الله حبّاً يرجو رحمته ويخاف عذابه كذلك…، فهي قالت: ما عبدتك خوفاً من نارك؛ أي ما عبدتك خوفاً من نارك فقط، ولا طمعاً في جنتك فقط، ولكن مع هذا وذاك لأنّك إلهٌ تستحقّ العبادة، عبادة الحبّ كما قالت عليها رحمة الله:
أحبُّكَ حبَّيـنِ حـبَّ الهـوى * وحبَّـاً لأنَّـك أهـلٌ لـذاكَ
فأمّـا الّذي هوَ حـبُّ الهوى * فشغلي بذكركَ عن من سواكَ
وأمّا الّـذي أنتَ أهـلٌ لـه * فكشفكَ للحُجْبِ حتّـى أراكَ
أو: * فكشفكَ لي الحجْبَ حتّى أراكَ
فلا الحمدُ في ذا ولا ذاكَ لي * ولكنْ لكَ الحمدُ فـي ذا وذاكَ
هذا الفارق بين من عبد الله خوفاً أو طمعاً: دخل الأب إلى بيته؛ وهو يحمل بيده أطعمةً وألبسةً وأشياء تُفرِح وتَسُرّ، فأقبل أولاده عليه، أمّا أحدهم فقد أقبل على الأكياس وقد جذبته خشخشتها، وأراد أن يرى ما فيها، فكانت نظرته دونيّة نظر إلى مستوى الأكياس، وأمّا الآخر فلم ينتبه إلى الأكياس الّتي بيدي أبيه، ولم ينتبه إلى الحلوى ولا إلى اللّعب ولا إلى الأطعمة، ولكن كانت نظرته علويّة فرفع رأسه ينظر إلى أبيه وهو يريد من أبيه أن يحمله، فهل هذا مثل ذاك؟ الّذي تعلّق بوالده هل كالّذي تعلّق بأغراض والده؟! الّذي عبد الله تعالى لذاته هل كالّذي عبد الله لخلقٍ من خلقه كجنته أو كناره؟! هل هما سواء؟ كلّهم ناجون يوم القيامة ولكن كما قال القائل في الحبّ:
قلْ لمنْ طافَ بكاساتِ الصّفـا * وسقا العشاقَ ممّا قـدْ نهـلْ
ما مقامـاتُ المحبّيـن سـوا * لا ولا العلمُ سـواءٌ والعمـلْ
ليسَ من لُوّحَ بالوصـلِ لـهُ * كالّذي سِيْرَ به حتّى وصـلْ
لا ولا الواصلُ عنديْ كالّـذي * قرعَ البـابَ وللـدّارِ دخـلْ
لا ولا مـنْ أدخلـوهُ كالّـذي * أجلسوهُ عندهمْ في المستهـلْ
لا ولا مـنْ أجلسـوُهُ كالّـذي * سارروهُ فهو للسـرّ محـلْ
لا ولا مـن سارروه كالّـذي * كان إيّاهم فدع عنك الجـدلْ
إذاً كلّ هؤلاء ناجون: الرّاجي والخائف والمحبّ؛ ولكن ليست مقاماتهم عند الله تعالى سواءً.
يقول قائل: إذا خفت من النّار ولم أفكر في الجنّة؛ فهل ينجيني الله من النّار ولا يدخلني الجنّة؟ نقول: لا سينجيك من النّار ويدخلك الجنّة. يقول: إن خفت من النّار وطمعت في الجنّة ولم يخطر ببالي حبّ الله، كنت راغباً وراهباً لا محبّاً، أفلا أرى الله في الجنّة؟ نقول: بلى ترى الله في الجنّة. النّتيجة واحدة ولكن الرّتبة المعنويّة تختلف، تصوّر أنّ الله لم يخلق جنّةً ولا ناراً (تصوّر جدلاً هذا لا يمكن) وتصوّر أنّ الله خلقك في دار البلاء في الدّنيا، في دار الامتحان دار الاختبار، وأمرك بهذه الأوامر الشّرعيّة ذاتها، ولكن لم يربط لك الفعل بالثّواب والتّرك بالعقاب، فلا جزاء بالخير للطّاعة ولا جزاء بالشّرّ للمعصيّة، تصوّر ذلك، وتصوّر أنّ الأوامر جاءت على حالها ما يكون موقفك؟ هل تقول: ما جزاء هذا الفعل؟ تصوّر أنّه قيل لك لا جزاء له، ولكن الخالق يأمرك بهذا، أفلا يجب عليك كعبد أن تطيعه ولو لم يربط لك العمل بالجزاء؟ بلى، لأنّه خالق وأنت مخلوق، لأنّه إله وأنت عبد، لأنّه القويّ العزيز الكبير وأنت الضّعيف الذّليل الصّغير، لأنّه الغنيّ وأنت الفقير، وجب عليك أن تستجيب وإن لم تربط الاستجابة بالجزاء، ولكن بما أنّ النّاس ليسوا كلّهم من هذه الرّتبة، بل إنّ القلّة القليلة وصلت إلى هذه الدّرجة، لذلك فقد وُجد الجزاء من أجل مراعاة عوامّ النّاس، الّذين لا يستجيبون إلاّ بوجود الجزاء، بوجود الثّواب والعقاب…
أقصى درجات الصّلة بالله إذاً صلة الحبّ، وحبّ الله تعالى عاطفةٌ ساميةٌ تفصل العبد عمّن سواه، نقول التّوحيد هو المظلّة الّتي تظلّل الحبّ، وتظلّل الرّجاء وتظلّل الخوف، فالموحّد إنسان يحبّ الله ولا يحبّ سواه، ويرجو الله ولا يرجو سواه، ويخاف الله ولا يخاف سواه؛ أمّا الخوف فإنّ من خاف غير الله فهو إذاً لا يخاف الله، ومن خاف الله لم يخف سواه، إمّا أن يخافه وإمّا أن يخاف غيره «اتنين سوا لا يمكن» كما قالها العزُّ بن عبد السّلام عندما وقف وقفة الرّجال بل وقفة الأسود، وعزل سلطان زمانه عن السّلطنة، وأرسل إليه ذلك السّلطان الأيوبي من يعرض عليه عدّة عروض: إمّا أن يتراجع عن فتواه، وإمّا أن يقبّل يده، وإما أن يمكث في بيته ولا يخرج أبداً، حتّى ينسى النّاس فتواه، قال: أمّا أن يتراجع فهذا لا يمكن هو مقتنعٌ بما قال، وأمّا أن يعتذر فلا يفعل، وأمّا أن يمكث في بيته ولا يخرج فلا يدع صلاة الجماعة. ثمّ قال: يا قوم أنتم في وادٍ وأنا في واد تريدون أن أقبّل يده؟ والله لا أرضى أن يقبّل يدي فضلاً عن أن أقبّل يده. والله لا أرضاه أن يقبّل يدي « ما بسترضي على نفسي انو أعطيه إيدي يبوسها » فكيف أقبّل يده؟ سُئل: كيف بلغت هذه الثّقة وهذه القوة؟ قال: ( إنّ العالم إذا ابتغى بعلمه وجه الله هابه كلّ شيء، وإذا ابتغى بعلمه الدّنيا هاب من كلّ شيء ) قاعدة ذهبيّة، ولكن حبر على ورق مبدئيّاً في زماننا ( إنّ العالم إذا ابتغى بعلمه وجه الله هابه كلّ شيء، وإذا ابتغى بعلمه الدّنيا هاب من كلّ شيء ): { وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إلاَّ اللهَ } يخافونه ولا يخافون أحداً غيره سبحانه وتعالى، لأنَّ الإنسان العاقل يعلم أنّ القدر سائرٌ بزيدٍ أو بعمرٍ أو بدونهما، فلا أحد يميته قبل عمره، ولا أحد ينزل به ضرّاً إلا بإذن الله { وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ * } ، { وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } ، { أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَن يَهْدِ الله فَمَا لَهُ مِن مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ * } ( بلى )، قال: { وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ } وأنت لا يمكن ولا ينبغي أن تخاف دونه سبحانه وتعالى، [واعلم أنّ الأمّة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلاّ بشيءٍ قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيءٍ لم يضروك إلاّ بشيءٍ قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفّت الصّحف]…
تصوّر أنّنا وضعنا اثنين، أتى رجل طاغيةٌ طاغوتٌ أمسك بالسّلاح ووضعه أمامهما: أكفر بالله وإلاّ قتلتك، أمّا أحدهما فلم يكفر وأمّا الآخر فكفر، الّذي لم يكفر أطلق عليه الطّلقة فقتله وأرداه، وأمّا الّذي كفر فبمجرد أن كفر بعد قليل مات انتهى عمره، ما النّتيجة؟ « من دون طلقة من دون رصاص من دون شي مات الزّلمة خلص عمره اتنينتون خلص عمرن، الله تعالى كاتب أنّو التّنين دي يموتو بها اللّحظة، بس واحد دي يموت بعد ما كفر وواحد بدّو يموت وهو مؤمن » أما كان هذا يحسب هذا الحساب « أنّو دا أموت دا أموت » قدري لا يُغير، فلماذا أكفر بالله مع أنّه هو المقدِّر؟! من أجل أن لا يقدِّر عليَّ مخلوقٌ موتاً، والمخلوق لا يقدِّر؟! إذاً هذه تحتاج إلى عقل، تحتاج إلى إيمان، الخشية لابدّ فيها من التّوحيد، ثمّ الرّجاء، ومن لم يخشَ إلا الله لم يرجو إلا الله.
حُبس أحد العلماء وعذّب وأذاقوه ألوان الأذى، فقال لمن يعذّبونه: إن حبستموني فحبسي خلوة، وإن أطلقتموني فحرّيتي دعوة، وإن عذّبتموني فعذابي جهاد، وإن قتلتموني فقتلي شهادة، فاختاروا أيَّها تريدون. في كلّ الأحوال هو مسرور، لأنّه يعلم أنّ كلّ ما ينزل به من الله، وإذا كان من الله فهو مسرورٌ به، إذا نظر إلى العذاب على أنّه من زيد من النّاس فسوف يتّقي عذابه بإرضائه، وأمّا إن رآه من الله فإنّه يرضي الله تعالى ولا يبالي بما بعد ذلك « قال ضرب الحبيب زبيب » فإذا وقع عليه الأذى من ربّه؛ وهو موقنٌ أنّ كلّ الأفعال الله فاعلها، فإنّه لا يغضب الله تعالى لأنّ الله هو الفاعل، إذاً الرّجل مسرور « إيش ما عملوا فيه هو مبسوط » إن حبستموني فحبسي خلوة « بيفضى لحالو بيعبد ربّه ويقرأ قرآن ويقرأ في العلم لأنّه إذا كان بين النّاس ما بيفضى، عب يدعو وبيعلّم طول الوقت، النّاس ما بيتركوا له وقت » قال: وإن أطلقتموني فإطلاقي دعوة «أحسن وأحسن» وإن عذّبتموني فعذابي جهاد في سبيل الله، وإن قتلتموني فقتلي شهادة « في خيار خامس؟ في حلّ خامس؟ ما في » فالرّجل في كلّ الأحوال مسرور؛ لأنّه لا يخشى ضُرّاً من غير الله، كما لا يرجو نفعاً من غير الله، إذاً لا يرجو إلاّ الله تعالى، لأنّه موحّد ويعلم أن لا يملك الخير إلا الله، ويقول في كلّ صباح وكلّ مساء: ( بسم الله ما شاء الله لا يسوق الخير إلاّ الله، بسم الله ما شاء الله لا يصرف الشّرّ إلاّ الله، بسم الله ما شاء الله ما كان من نعمة فمن الله، بسم الله ما شاء الله لا حول ولا قوة إلاّ بالله العليّ العظيم ) هذا الذّكر يردّده المسلم كلّ صباح وكلّ مساء: ( بسم الله ما شاء الله لا يسوق الخير إلاّ الله ): فلا يرجو سواه، ( بسم الله ما شاء الله لا يصرف الشّرّ إلاّ الله ): فلا يخاف سواه، ( بسم الله ما شاء الله ما كان من نعمة فمن الله، بسم الله ما شاء الله لا حول ولا قوة إلاّ بالله العليّ العظيم )…
النّاس يسمعون هذا مراراً « كلّ خطبة جمعة بيسمعوا » ( واعلموا أنّه لا يضرّ ولا ينفع، ولا يصل ولا يقطع، ولا يعطي ولا يمنع، ولا يخفض ولا يرفع، ولا يفرّق ولا يجمع إلاَّ الله… ) ولكن يا تُرى هل نفكر في معناها العميق؟ هل نفكر في دلالات هذه الكلمات البليغة المعبرة؟ ( واعلموا أنّه لا يضرّ ولا ينفع إلاّ الله، ولا يصل ولا يقطع إلاّ الله، ولا يعطي ولا يمنع إلاّ الله، ولا يخفض ولا يرفع إلاّ الله، ولا يفرّق ولا يجمع إلاّ الله )… فإن لم يخف إلاّ هو وإن لم يرجو إلاّ إيّاه فلا بدّ من أن لا يحبّ إلا إيّاه.
الحبّ: علاقةٌ عاطفيّةٌ بين اثنين، لا يريد الله تعالى منّا أن نكبتها أو نكتمها، بل يريد منّا أن نحسن توجيهها وترشيدها، الحبّ عاطفة، والعاطفة طبيعة، والطّبيعة مخلوقةٌ من الله تعالى في الإنسان، لذلك لا يراد منّا أن نكتمها، بل أن نحسن توجيهها إذاً، المسلم يسمو بحبّه إلى أعلى درجات الحبّ، حتّى يكون حبّه لأعلى درجات المحبّوبين، فإن لم يكن على هذه الدّرجة من العقل فإنّه يهبط بحبّه إلى المخلوقين، بل وقد يهبط بحبّه مع المخلوقين إلى المعصيّة، وهذا ما سمعناه من شعراء كثيرين، مثال نزار قبانيّ، وأمثال عمر بن أبي ربيعة، وغيرهما ممّن هبطوا بحبّهم، منهم من تاب ومنهم من لم يتب، وجيه البارودي شاعرٌ حَمَويّ كان من شعراء الغزل العمريّ ( الغزل الفاحش الماجن ) في آخر عمره حجّ إلى بيت الله الحرام، وتاب إلى الله والتزم وانتظم، بقي يقول غزلاً ولكن ضمن الحدود الشّرعيّة، ورغم أنّ معظم شعره شعرٌ ماجن، ولكنّ بيتاً له أتغنّى به كثيراً، ويثير عندي مشاعر رائعة عندما أذكر ما قال ذلك الرّجل، عندما قال:
أسموْ بحبّكِ فوقَ آثامِ الهوى * واللّذةُ الدّنيا لمنْ هوَ دونيْ…
فقد سما، بقي يحبّ ولكن الحبّ المباح لا الحبّ المحرّم، قد يحبّ زوجته، قد يحبّ بنته، قد يحبّ أخاه، قد يحبّ صديقه، قيس بن الملوح، جميل بثينة، جميل بن معمر وغيرهما أحبّوا ولكن كان حبّهم فوق آثام الهوى، جميل بثينة جاء في حبّه في الخبر عنه، وهو رجل أمويّ العصر؛ يعيش في ديار بني عذرة قرب المدينة المنورة، جاء أنّه حضرته الوفاة وكادّ يموت كمداً حزناً على بثينة بنت عمه، فجاءه أحد صالحي قومه ليلقنه لا إله إلاّ الله، قال له أسألك عن رجلٍ مؤمنٍ بالله واليوم الآخر؛ يقول لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله، لا يفعل المعاصي ولا يدع الفرائض؛ يصلي ويصوم إذا مات أين يذهب؟ قال: إلى الجنّة فمن هو؟ قال: أنا. قال: أنت؟! أيُّها الفاسق أيُّها الفاجر، ملئت الدّنيا بقصائدك، وبغزلك، وببثينة «صرعتنا ببثينة» فقال له جميل: يعلم الله ويشهد أنّ يدي ما مسّت يدها في عمريّ إلا مرّة واحدة، وأنا أستغفر الله وأندم من تلك المرّة. هذا نزل بحبّه إلى درجة المخلوقين، ولكن لم ينزل إلى درجة المعصية، آخرون سموا بحبّهم إلى درجة حبّ الله سبحانه وتعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * } ، يحبّون الله تعالى، ومن أحبّ الله لم يكن محتاجاً لأن يحبّ أحداً آخر، إلاّ من كان حبّه ثمرةً من ثمرات حبّ الله، من أحبّ الله أحبّ الأنبياء والمرسلين [ لا يؤمن أحدكم حتّى أكون أحبّ إليه من والدّه وولده والنّاس أجمعين ] هكذا قال عليه الصّلاة والسّلام بل: [ ومن نفسه الّتي بين جنبيه ] يقول عمر بكلّ صراحة: يا رسول الله أنا أحبّك أكثر من والدّي وولدي والنّاس أجمعين؛ غير أنّي أحبّ نفسي أكثر « يعني بدّك الصّدق ولا ابن عمه إي أنا بحبّ نفسي أكتر » عمر لا يقول ذلك مكابرةً، بل يقول ذلك كالمريض الّذي يعرض مرضه يريد العلاج، العلاج عند النّبيّ بكلّ بساطة: [ لم يكمل إيمانك يا عمر ] لا بأسَ بمعركةٍ سريعةٍ يخوضها عمر مع هذه النّفس، فيخرج منها بعد لحظات لا أكثر منتصراً؛ مع أنّها معركةٌ عجز البعض أن يحسم نتيجتها رغم مجاهدة سنوات، أن يستطيع أن يحبّ الله ورسوله أكثر من نفسه، البعض بعد سنوات ما استطاعوا، عمر بلحظات قال: الآن يا رسول الله أحبّك أكثر من نفسيَ الّتي بين جنبي. قال: [الآن كَمُل إيمانك يا عمر].
كيف تحبّ الله ورسوله أكثر من ولدك؟ امرأةٌ قريبةٌ كانت رحمة الله عليها شديدة الحبّ والتّعلّق بأولادها وبناتها، ولا أعلم امرأةً من كلّ من علمت أشدّ عاطفةً مع أبنائها من هذه المرأة، شيء عجيب حبّها وعاطفتها ولهفتها، مرةً قالت لي: « إشلون واحد ممكن يحبّ النّبيّ أكتر من ولاده؟ إي والله شغلة صعبة أنا ما بتصوّر أحبّ حدى في الدّنيا كلّها أكتر من ولادي، قلت لها: أسألكِ سؤال »: إذا سمعت واحداً من أولادك يسبُّ النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم؟ « قال بقطع لسانه… قلت لها »: إذاً أنت تحبّين النّبيّ أكثر منه. إذاً أنت تحبّين النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام أكثر من أولادك « مستعدّة تقطعي لسان ابنك لأنّه أساء إساءة للنّبيّ عليه الصّلاة والسّلام » إذاً أنتِ مُحبّةٌ له أكثر من والدك وولدك، ولكن بقي أن نحبّه أكثر من أنفسنا، إن تعارض أمر النّبيّ مع هوى النّفس من نطيع ومن نتبع؟ هنا بيت القصيد، وأكثر من نفسه الّتي بين جنبيه (أحبّ إليه من نفسه الّتي بين جنبيه).
حبّ الله تعالى الّذي انعكس على حبّ النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام وأثمر، يثمر حبّ صحابة النّبيّ [ عليّ لا يحبّه إلاّ مؤمن ولا يبغضه إلاّ منافق ] هكذا قال عليه الصّلاة والسّلام، وعليّ ذاته قال: ( لا يحبّ أبا بكرٍ وعمر إلاّ مؤمنٌ ولا يبغضهما إلاّ منافق )، [ الأنصار لا يحبّهم إلا مؤمنٌ ولا يبغضهم إلا منافق ] كما قال عليه الصّلاة والسّلام، هذه ثمرة، حبّ الصّالحين، الحبّ في الله، حبّ الأخ المؤمن، حبّ العلماء، كلّ ذلك ثمرةٌ لحبّ الله تعالى « في فارق » بين أن أحبّ الإنسان محبّة مباشرة، أو أن أحبّه بعد أن أحبّبت الله تعالى، عندما يلتزم الأخ التزاماً حديثاً معنا في المسجد وفي مجالس العلم، قد ألحظ تعلّقاً منه بأخٍ آخر؛ حبّ صادق وإخلاص ومودّة، ولكن أنا لا « أحبّذ » مثل هذا الحبّ، لأنّه ما وصل إلى درجة حبّ الله تعالى كما ينبغي، فلذلك حبّه لأخيه ليس ثمرةً لحبّ الله، إنّما هو حبّ إنسانيّ عام، لذلك لا يثبت ولا يدوم بل يُخشى عليه العواقب السّيئة، يخشى عليه « إنّه ينقطع فرد قطعة » ويؤدي إلى بغض فيما بعد { الأَخِلاَّء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ * } لذلك لا « أحبّذ » أن يتحابّ اثنان إلا بعد أن يصل كلاهما إلى الحبّ الحقيقي لله سبحانه، حتّى يكون حبُّ الإنسانِ الإنسانَ ثمرةً لحبّه لله سبحانه…
إذاً الحبّ لا بدّ فيه من التّوحيد، والرّجاء لابدّ فيه من التّوحيد، والخوف لا بدّ فيه من التّوحيد، التّوحيد في هذه الشّؤون كلّها أساس، المؤمن موحّدٌ « من دون ما » يقرأ أقوال الفلاسفة وأقوال علماء الكلام « وإيش قال الأشعري وإيش قال الماتُريدي » هو موحّد بفطرته، ودعّم توحيد الفطرة عقلٌ سليمٌ ومنطقٌ سويّ، فجعل يقول: { قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَهُ كُفُواً أَحَدٌ * } ، وجعل يقول: { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ * } ، وجعل يقول: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ*} ، وجعل يقول: { اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } ، وجعل يقول: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الله } .
إذاً هذا هو توحيد الاعتقاد، وأمّا النّوع الثّاني فإنّه توحيد الدّعوة، وهذا هو الّذي أُخترع من أجله علم الكلام، وهو الّذي قلنا إنّه: ( علمٌ يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانيّة بالأدلة العقليّة )، فهو علم دعوة فيه حجاج فيه جدال: { وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } ، { وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } ، والمنطق: جدالٌ بالّتي هي أحسن، لذلك فإنّ هذا العلم علمٌ معقّدٌ لتعقيد المنطق فيه، فالاطلاع عليه يختلف حكمه من إنسان إلى آخر، فهو في حقّ إنسانٍ فرض، في حقّ إنسانٍ مباح، وفي حقّ إنسانٍ حرام، وهذا ينطبق على علوم أُخرى مثلاً: قراءة الكتب السّماويّة السّابقة الآن ما حكمها؟ قد تكون حراماً وقد تكون مباحةً، وقد تكون حلالاً؛ المسلم الّذي لم يتثبّت تماماً من مبادئ دينه، ولم يقرأ القرآن بتمعُّنٍ كلّه، ولم يطّلع على تفاصيل أحكام الإسلام، يَحرُم عليه أن يقرأ التّوراة والإنجيل، رأى النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام بيد عمر بن الخطّاب صحائف من التّوراة فأخذها ومزّقها وقال [ لو كان موسى بن عمران حيّاً ما وسعه إلاّ اتباعي ] لأنّ المسلمين في ذلك الوقت لم يتثبّتوا تماماً من الإسلام لأنّهم في البدايات، سبب من هذه الأسباب مثلاً: قد تقرأ في الإنجيل فتجد فيه بعض القيم المُثلى، وبعض مكارم الأخلاق، والأمر بالصّدق، والأمر بالعفو و( من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر )، ( أحبّوا أعدائكم )، ( باركوا لاعنيكم ) فمن أجل بعض القيم الجميلة قد تحبّ الإنجيل بمجمله، مع أنّ هذه القيم في الإسلام ما هو مثلها بل خيرٌ منها، أنت لم تطّلع عليها في الإسلام، ولكن اطّلعت عليها في النّصرانيّة، لو أنّك أطلعت عليها في الإسلام ثمّ قرأتها في الإنجيل أو في التّوراة لن يؤثر ذلك عليك؛ ستعلم أنّ هذا عندنا مثله، لذلك يحرم على المسلم ضعيف الإيمان أو ضعيف العلم والثّقافة الشّرعيّة أن يقرأ الكتب السّابقة، وأمّا المسلم الّذي ثبت إيمانه، وغَزُرَ علمه، واتسعت مداركه، وصار إيمانه إيماناً راسخاً كالطّود، لا يمكن أن يتزعزع فيُباح له أن يقرأ الكتب السّابقة، وأمّا العالم الدّاعي إلى الله الّذي يخاطب النّصارى واليهود ويدعوهم إلى الإسلام فهذا يجب عليه أن يقرأ التّوراة والإنجيل، حتّى يفهم دينهم قبل أن يدعوهم، وحتّى يخاطبهم بألسنتهم، يجب عليه أن يقرأ التّوراة والإنجيل، ومثل هذا علم التّوحيد: فبالنّسبة للمسلم ضعيف الإيمان يحرم عليه قراءة علم الكلام، لأنّه أشبه بالفلسفة الّتي قد تثير عنده شبهات والّتي قد « تلخبط » له إيمانه « الزّلمة كان مؤمن أجا يقرأ علم التّوحيد بالو دي يزيد إيمانه قام كفر » لأنّه لا يحتاج لعلم التّوحيد « هدا بدّو يزيد إيمانه يروح يصلي، بدّو يزيد إيمانه يقرأ قرآن، بدّو يزيد إيمانه يذكر الله، ما شغلته يقرأ علم التّوحيد هدا فلسفة مو لزيادة الإيمان إنّما لزيادة الحجج » الحجج الإقناعيّة، هذا يحرم عليه أن يقرأ علم التّوحيد، وأمّا إن كان ثابت الإيمان لا يتأثّر بهذه المحاكمات والمماحكات، فيجوز له أن يقرأ علم التّوحيد.
وأمّا إن كان عالماً داعياً يخاطب الملحدين - العقلانييّن كما يزعمون - ويخاطب المادييّن والوجودييّن وأصحاب المنطق الفاسد، فهذا يجب عليه أن يقرأ علم التّوحيد، إذاً علم التّوحيد موجّهٌ لهؤلاء بالدّرجة الأولى، ثمّ موجّهٌ لمن بعدهم.
من فوائده أنّه يقوي المنطق عند الإنسان المسلم، وأنّه يزيد من حُجَجِه، وأنّه يزيد من مداركه وثقافته؛ وذلك أنّ التّلقين لا ينفع دائماً، التّلقين ينفع مع العوامّ، ومشايخ زماننا نسبتهم الغالبة يستعملون التّلقين ( افعل ولا تفعل ) انتهى الأمر، مع المسلم عظيم الإيمان هذا يكفي: افعل يفعل، قال الله، قال رسول الله، انتهى الأمر، سلّم، ولكن ليس كلّ النّاس هكذا… فكم منهم مرضى نفوس، وكم منهم يحبّون الجدل لذاته، وكم منهم لم يطّلعوا على الإسلام إلاَّ بعد أن شبعت أفكارهم فلسفات يونانيّة، قرؤوا لكارل ماركس، وقرؤوا للينين، وقرؤوا لبوذا وكونفوشيوس « نجي نقول له بس هيك قال الله وانتهى الأمر؟ ما بيمشي الحال هدا معه » لا يقتنع « نقول له حلال وحرام، ما بيفهم » هذا لا بدّ من أن نأتيه من الباب الّذي يؤتى منه، ونخاطبه بلغته « بيفهم عقل بيفهم منطق »، الآن أمامي إنسان مسلم سنيّ صالح « بدّي أقنعه بفكرة بجيب له آية بيقتنع بجيب له حديث بيقتنع » أمامي إنسان مسلم غير سني « ما بيعترف بالأحاديث الشّريفة، أو ربّما يكون هدا مو مسلم الحقيقة إذا ما بيعترف بالحديث، قال أنا ما بعترف غير بالقرآن، السّنّّة كلّها على بعضها ما بعترف فيها، بقول له أنت كافر، بيقول إي كافر كافر مي فارقة معه، إي أنا ما بدّي أقول له كافر أنا بدّي يؤمن، ما بدّي يكون كافر بدّي يكون مؤمن، لذلك بقول له طيب بإيش بتقتنع؟ بيقول: أنا القرآن بس، ما عندي غير القرآن. قلنا له طيب بارك الله. من القرآن اللّي المتفقين عليه ننطلق منوصّل للسّنّة منوصّل لكلّ شي بدّنا ياه، نتّفق على أرضيّة مشتركة بينَّا وبينه، واحد تاني قال: أنا لا بزبط معي لا قرآن ولا سنّة، ولا توراة ولا إنجيل ولا شي أبداً، كلّهن هدول ما بزبطوا معي. يا أخي بإيش بتقتنع أنت؟ قال: أنا ما عندي غير لغة العقل. بارك الله، في أرضيّة ثابتة إذاً بينا وبينك، تعا على لغة العقل تعا لنتحاور شوف لوين منوصّل، إذاً إشّي اللّغة اليّ بتفهم فيها لنحكي معك إيش بتفهم؟ نحكي معك، وإيش بتريد؟ عنّا » عندنا كلّ لغةٍ تفهم بها، إن كنت تفهم بلغة النّقل فعندنا النّقل، وإن كنت تفهم بلغة العقل فعندنا العقل، وإن كنت تفهم بلغةٍ أخرى ثالثةٍ فأخبرنا بها ونحن نخاطبك بها، هذه هي الحاجة إلى علم الكلام ( إلى علم التّوحيد ) أن نستطيع خطاب النّاس على حسب عقولهم وعلى حسب ما يفهمون.
ولكن علم التّوحيد بالغ بعض مصنّفيه فجعلوه فلسفة لا تنفع، فحرّم بعض العلماء الاشتغال به…
ولكنّنا عندما نتكلّم فيه إن شاء الله سوف نبسّطه بقدر المستطاع، جامعين بين العقل والنّقل، حتّى يستفيد العاميُّ والبسيط ويأخذ العقيدة الّتي ينبغي أن يتمثّلها ويعتنقها، ويستفيد منه الدّاعي إلى الله تعالى، فيأخذ الحجّة الّتي يريد أن يدعو بها، والعقيدة الّتي يريد أن يدعو إليها.
أمّا ما هو علم التّوحيد بالتّفصيل؟ ومن أوائل من صنّفوا فيه؟ وما أعظم الكتب المصنّفة فيه؟ وما هي أهمّ مسائله؟ فهذه كلّها نتكلّم فيها في درس قادم مع ابتدائنا بإذن الله تعالى بالكلام في أول مسائل التّوحيد، ألا وهي مسألة الإلهيات (الكلام عن الله تعالى)، نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممّن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأودّ ألا يفوّت أحدٌ مثل هذه الموضوعات المهمّة، الّتي تنفع في هذا الزّمان أكثر من أيِّ زمانٍ مضى، لأنّ زماننا زادت فيه الحجج، وزاد فيه أصحاب المنطق الّذين يقارعون أصحاب الدّين، فوجب أن نمتلك مثل سلاحهم، ومثل حجّتهم نسأل الله أن يردّنا إلى دينه ردّاً جميلاً، والحمد لله ربّ العالمين.
اللّهمّ إنّا نسألك علماً نافعاً، وقلباً خاشعاً، ولساناً ذاكراً، وعملاً صالحاً متقبلاً، ونعوذ بك من علمٍ لا ينفع، وقلبٍ لا يخشع، ونفسٍ لا تشبع، وعينٍ لا تدمع، وعملٍ لا يرفع، ودعاءٍ لا يسمع. اللّهمّ حبّب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الرّاشدين. اللّهمّ أرنا الحقّ حقّاً وارزقنا اتباعه وحبّبنا فيه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه وكرّهنا فيه. ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمةً إنّك أنت الوهّاب. اللّهمّ يا مقلّب القلوب والأبصار ثبّت قلوبنا على دينك. اللّهمّ ثبّتنا بالقول الثّابت في الحياة الدّنيا وفي الآخرة. اللّهمّ صرّف قلوبنا إلى طاعتك. اللّهمّ إنّا نسألك حبّك، وحبّ من يحبّك، وحبّ العمل الّذي يقرّبنا إلى حبّك. اللّهمّ إنّك عفوٌّ تحب العفو فاعفُ عنّا. اللّهمّ كما جمعتنا على ما يرضيك حل بيننا وبين معاصيك، واجعلنا من المتحابّين فيك. اللّهمّ اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرّقنا من بعده تفرّقاً معصوماً، ولا تدع فينا شقيّاً ولا محروماً، اللّهمّ اجزِ عنّا نبيّنا محمّداً صلَّى الله عليه وسلَّم خير ما جزيت نبيّاً عن أمته. اللّهمّ اجزِ عنّا مشايخنا ومن علّمنا ما أنت أهله يا ربّ العالمين، واجزِ عنّا والدّينا وأمهاتنا وإخواننا وسائر المسلمين ما أنت أهله. اللّهمّ صلِّ على سيّدنا محمّدٍ الفاتح لما أغلق، والخاتم لما سبق، والنّاصر الحقّ بالحقّ، والهادي إلى صراطك المستقيم، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله ربّ العالمين.

الملفات الصوتية
الملف الأول 423.12 KB
أرسل هذه الصفحة إلى صديق
اسمك
بريدك الإلكتروني
بريد صديقك
رسالة مختصرة


المواضيع المختارة
مختارات

[حسن الظن بالله]

حسن الظن بالله يعني أن يعمل العبد عملاً صالحاً ثم يرجو قبوله من الله تعالى ، وأن يتوب العبد إلى الله تعالى من ذنب عمله ثم يرجو قبول الله تعالى لتوبته ، حسن الظن بالله هو ذاك الظن الجميل الذي يأتي بعد الفعل الجميل.
يقول النبي عليه الصلاة والسلام : {لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى.}
قال سبحانه في الحديث القدسي :{ أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني } أنا عند ظن عبدي بي فإذا ظننت أنه يرحمك وأخذت بأسباب الرحمة فسوف يرحمك ، وأما إن يئست من رحمته وقصرت في طلب أسبابها فإنه لن يعطيك هذه الرحمة لأنك حكمت على نفسك والله تعالى سيحكم عليك بما حكمت أنت على نفسك .