مواضيع متنوعة > النّبيّ الأعزّ
النّبيّ الأعزّ

يتشدّق الغرب بمصطلحاتٍ يضعونها في غير موضعها، ويريدون بها توجيه الإساءة إلى أمّة الإسلام دون سواها من الأمم, منها المصطلح البرّاق الخادع المسمّى بحرّيّة الرّأي والتّعبير، والّذي جعلوه ذريعةً للإساءات الجسام الّتي وجهوها إلى أمّة الإسلام مُمثّلةً بنبيّها عليه الصّلاة والسّلام؛ فأساءوا إليه وإلى أمته وإلى دينه إساءاتٍ جسيمةً تمثّلت في الاستهزاء والسّخرية الّتي وضعوها في رسومهم " الكاريكاتيريّة " الّتي ما أرادوا من خلالها إلاّ إظهار أحقادهم الدّفينة، وليس ما أظهروه إلاّ غيضاً من فيضٍ ممّا يحملونه في قلوبهم،

النّبيّ الأعزّ ـ 11 المحرم ـ 1427 هـ
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله ربّ العالمين، وأفضل الصّلاة وأتمّ التّسليم على سيّدنا محمّدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين, اللّهمّ إنّا نسألك من خير هذا اليوم وخير ما فيه وخير ما بعده، نسألك فتحه ونصره ونوره وبركته وهداه، ونعوذ بك من شرّ ما في هذا اليوم وشرّ ما بعده, اللّهمّ اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلاّ أنت، واصرف عنّا سيّئ الأخلاق لا يصرف عنّا سيّئها إلاّ أنت, اللّهمّ أرنا الحقّ حقّاً وارزقنا اتّباعه وحبّبنا فيه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه وكرّهنا فيه, اللّهمّ حبّب إلينا الإيمان وزيّنه في قلوبنا، وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الرّاشدين, اللّهمّ اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلاّ أنت، واصرف عنّا سيّئها لا يصرف عنّا سيّئها إلاّ أنت, اللّهمّ رحمتك نرجو فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، وأصلح لنا شأننا كلّه في الدّين والدّنيا والآخرة, اللّهمّ إنّا نسألك إيماناً لا يرتدّ، ونعيماً لا ينفد، وقرّة عينٍ لا تنقطع، ومرافقة نبيّك محمّدٍ صلى الله عليه وسلم في أعلى جنان الخلد, اللّهمّ إنّا نعوذ بك من الهمّ والحزن، ونعوذ بك من العجز والكسل، ونعوذ بك من الجبن والبخل، ونعوذ بك من غلبة الدّين وقهر الرّجال، ومن فتنة المحيا والممات وفتنة المسيح الدّجّال, اللّهمّ إنّا نسألك علماً نافعاً وقلباً خاشعاً ولساناً ذاكراً وعملاً صالحاً متقبلاً وشفاءً من كلّ داء، اللّهمّ إنّا نعوذ من علمٍ لا ينفع وقلبٍ لا يخشع ونفسٍ لا تشبع وعينٍ لا تدمع وعملٍ لا يرفع ودعوةٍ لا يستجاب لها, اللّهمّ إنّا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحبّ المساكين وإذا أردت بقومٍ فتنةً فاقبضنا إليك غير مفتونين, اللّهمّ إنّا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوّل عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك, اللّهمّ افتح بخير واختم بخير واجعل عاقبة أمورنا إلى خير, اللّهمّ بفيضك العميم عمّنا واكفنا اللّهمّ شرّ ما أهمّنا وأغمّنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسّنّة جمعاً توفّنا، نلقاك اللّهمّ وأنت راضٍ عنّا، نلقاك اللّهمّ وأنت راضٍ عنّا، نلقاك اللّهمّ وأنت راضٍ عنّا, وصلِّ اللّهمّ على سيّدنا محمّدٍ وعلى آله وصحبه وسلم.
يتشدّق الغرب بمصطلحاتٍ يضعونها في غير موضعها، ويريدون بها توجيه الإساءة إلى أمّة الإسلام دون سواها من الأمم, منها المصطلح البرّاق الخادع المسمّى بحرّيّة الرّأي والتّعبير، والّذي جعلوه ذريعةً للإساءات الجسام الّتي وجهوها إلى أمّة الإسلام مُمثّلةً بنبيّها عليه الصّلاة والسّلام؛ فأساءوا إليه وإلى أمته وإلى دينه إساءاتٍ جسيمةً تمثّلت في الاستهزاء والسّخرية الّتي وضعوها في رسومهم " الكاريكاتيريّة " الّتي ما أرادوا من خلالها إلاّ إظهار أحقادهم الدّفينة، وليس ما أظهروه إلاّ غيضاً من فيضٍ ممّا يحملونه في قلوبهم، كما قال تعالى في وصفهم وفي وصف أمثالهم: { قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ * } .
مصطلح حرّيّة الرّأي الّذي يتشدّقون به مصطلحٌ محترمٌ جدّاً بالنّسبة للمسلمين عندما يوضع في موضعه, بل إنّ الأمّة الإسلاميّة هي أكثر أمّةٍ تحترم حرّيّة الرّأي, ولعلّنا لا نجد في التّاريخ القديم تشريعاً جاء بحرّيّة الرّأي كما جاء به تشريع الإسلام الّذي قرّر حرّيّة اتخاذ المبدأ وحرّيّة اعتناق الدّين، مع أنّه أوضح الحقّ والباطل، وبيّن الإيمان والكفر، ومع ذلك ترك الخيار لمن أراد أن يختار الكفر، حمّله مسؤوليّة اختياره وتبعات هذا الاختيار في الآخرة، ولكنّه ترك له حرّيّة الاختيار في الدّنيا, يقول ربّنا سبحانه: { وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ } ، ويقول تعالى: { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * } .
وقد قال أناسٌ إنّ أمثال هذه الآيات منسوخةٌ بآيات السّيف الّتي لم تدع مجالاً للكافر أن يبقى على كفره, جواب ذلك: قد نُسخ إقرار الكافر على كفره ما لم يكن كتابيّاً، وأمّا الكتابيّ فإنّ إقراره على كفره لم ينسخ، وقد دخل المسلمون بلاداً كثيرةً عاش فيها الكتابيّون وأقرّوهم على أديانهم، رغم أنّ الإسلام يقرّر مبدأً مهماً أنّ كلّ دينٍ سوى الإسلام باطل وأنّ كلّ شريعةٍ سوى شريعة النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام منسوخةٌ موضوعةٌ لا وزن لها عند الله تعالى، وقد قرّر الله جلّ وعلا أن اليهود والنّصارى كفارٌ فقال سبحانه: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ * } , وقال سبحانه في بيان كفرهم وخسرانهم يوم القيامة: { وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * } , ورغم ذلك ومع أنّ الإسلام قرّر كفر اليهود والنّصارى وقرّر بطلان شريعتهم قرّر أنّها شريعةٌ محرّفة وبغض النّظر عن تحريفها هي شريعةٌ منسوخةٌ، ومع ذلك أقرّ الإسلام وجودهم في دولة الإسلام وأقرّ الإسلام معاملتهم بالحسنى، وجعلهم أهل ذمّة، وجعل النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام هؤلاء الأقوام أصحاب عهدٍ ربّانيّ؛ فقال صلوات الله وسلامه عليه: [ ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلّفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفسٍ منه فأنا حجيجه يوم القيامة ] , وقد كان من وصيّة سيّدنا أبي بكرٍ رضوان الله عليه لأسامة بن زيد عندما مضى إلى فتح بلاد الرّوم: ( أن لا يقتل شيخاً ولا طفلاً ولا امرأةً، وأن يدع الرّهبان الّذين في كنائسهم ويؤمّنهم على أنفسهم وعلى كنائسهم وعلى عباداتهم ) وهكذا صنع المسلمون في كلّ البلاد الّتي دخلوها وكان فيها أناسٌ من أهل الكتاب.
فما من شريعةٍ أقرّت حرّيّة الرّأي والتّعبير كما أقرته شريعة الإسلام، ولكنْ عندما يتكلّم الغرب عن حرّيّة التّعبير فإنّه يستغلّ مصطلحاً جميلاً جدّاً استغلالا سيّئاً جدّاً، فهو يضع كلمة حقٍّ من أجل غايةٍ باطلةٍ, وإذا صنّفنا الأمم من حيث حرّيّة التّعبير فيها فإنّ أمّة الغرب تكاد تكون في الحضيض، تكاد تكون في ذيل القائمة في حرّيّة التّعبير، رغم الحرّيّة البرّاقة الّتي يتشدّقون بها!!, الحرّيّة المزعومة في الغرب حرّيّةٌ موجّهةٌ، وفي غير هذا الاتجاه المدروس المسيَّس المسيطر هو تقييد الحرّيّة، وهو كبت الحرّيّة, في أممٍ كثيرةٍ نجد الحرّيّة بكلّ أشكالها أكثر من حرّيّة الغرب، رغم أنّ الإعلام العالميّ يركّز على حرّيّة الغرب على أنّها النّموذج المثالي, فعلى سبيل المثال: الحرّيّة الّتي نجدها في دولةٍ مثل الهند لا نجد لها مثيلاً في العالم كلّه, حرّيّةٌ تستغلّ أحياناً استغلالاً خاطئاً، ولكنْ لا يُمنع أحدٌ من ممارستها لا أصحاب الحقّ ولا أصحاب الباطل, كنت أمشي مرةً في بعض بلدان الهند فرأيت معبداً، أخبرني بعض سكّان المنطقة أنّ هذا المعبد يتبع لأصحاب الدّيانة الجَيْنِيّة، وهي ديانةٌ واسعة الانتشار تعدّ في المرتبة الرّابعة أو الخامسة في الانتشار في تلك البلاد, فنزلت لأرى راهب هذا المعبد المسؤول عنه وأحاوره وأدعوه إلى الإسلام، وبدأت أحاوره وأستفهم منه عن دينه أشياء وأشياء، فسمعت مبادئ لا أعهدها في الدّيانة الجَيْنِيّة، وقد درستها وعرفت كثيراً من مبادئها، استغربت!
قلت له بعد ذلك: أليست ديانتكم الدّيانة الفلانيّة؟! أليس شعاركم الشّعار الفلانيّ؟! أليس من مبادئكم كذا وكذا؟!
قال: لا لا أبداً.
قلت: عجيب!! على أيّ دينٍ أنتم؟! فذكر لي اسماً صعباً جدّاً، صَعُبَ عليَّ حفظه، كتبتُه ولكن ما استطعت حفظه.
من أين هذا الدّين؟ من الّذي أتى به؟ فإذا به هو الّذي اخترع هذا الدّين، كانت ديانته في السّابق الجَيْنِيّة، ولكنّه اخترع ديناً جديداً وأسّس معبداً لنشر هذا الدّين يبتزّ فيه أموال النّاس، إلى هذه الدّرجة الحرّيّة! كلّ واحدٍ يخترع ما يشاء! حتّى لو اخترع ديناً جديداً فلا أحدَ يكلّمه شيئاً، ومن النّاحية السّياسيّة كذلك هنالك حرّيّةٌ كبيرةٌ، وللمسلمين حرّيّةٌ كبيرةٌ، ينشئون جامعاتهم ومدارسهم ولا يتدخّل أحدٌ معهم، وهناك من يمشي بحجابٍ كاملٍ، وهناك من يمشي بدون لباسٍ بالمرّة، ولا أحدٌ يتدّخل مع هذا ولا مع هذا، حرّيّةٌ متفلّتة، ولكن.. طبعاً نحن لا نفاضل بين الحرّيّة المحمودة والحرّيّة المذمومة، نحن نفاضل ما بين الحرّيّة المزعومة للغرب وحرّيّاتٍ في بلاد أخرى لا يتكلّم الإعلام عنها بالقدر نفسه من التّعظيم الّذي يتكلّم به عن حرّيّة الغرب.
طبعاً هذه الحرّيّة المتفلّتة مذمومة، والحرّيّة المحمودة هي الحرّيّة الّتي أقرّها الإسلام منضبطةً بضوابط أخلاقيّةٍ وضوابط اعتقاديّةٍ لا يجوز تجاوزها.
وأمّا في الغرب فلا هي حرّيّةٌ منضبطةٌ ولا هي حرّيّةٌ مطلقةٌ، ضربت مثال الهند لأبيّن أنّ حرّيّة بلاد الغرب لا هي تشبه الحرّيّة المطلقة الّتي في بلادٍ كالهند، ولا هي تشبه الحرّيّة المنضبطة المثاليّة الّتي جاء بها الإسلام، إنّما هي حرّيّةٌ مقيّدةٌ مسيّسة، حرّيّةٌ مضبوطةٌ بضوابط مصلحيّةٍ لا بضوابط شرعيّةٍ مبدئيّةٍ أقرّها ربّ السّماء سبحانه وتعالى.
الصّحيفة الّتي نشرت هذه الرّسوم المخزية عن رسول الله عليه الصّلاة والسّلام عُرض عليها قبل عام رسمٌ مسيءٌ للمسيح عيسى ابن مريم عليه السّلام، فرفضت تلك الصّحيفة أن تنشره، رغم أنّها اليوم تتشدّق كثيراً بحرّيّة الرّأي، من عامٍ رفضت أن تنشر هذا الرّسم والآن تنشر اثني عشر رسماً!!.
وقصّة الرّسوم أنّ الصّحيفة أعلنت عن مسابقةٍ للرّسوم السّاخرة "الكاريكاتيريّة " وخصّصت شخص النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام مادّةً لهذه المسابقة – عليهم من الله ما يستحقّون – فاشترك في هذه المسابقة مئة رسّام، اختِيرَ من رسومهم المئة اثنا عشر رسماً لاثني عشر رسّاماً، نُشرت في صفحةٍ من صفحات هذه الجريدة، وكان ذلك في العشرين من شهر أيلول من عام 2005 م، قُبيل شهر رمضان المبارك الماضي عام 1426 هـ، نُشِرَت تلك الرّسوم، وكرّرت الصّحيفة نشرها على مدى أكثر من أسبوعين، كلّ مرّةٍ تنشر رسماً أو أكثر، بعد أن نشرت الرّسوم كلّها مجتمعةً في صفحةٍ واحدة، وهم لا يريدون بذلك حرّيّة الرّأي، لأنّ حرّيّة الرّأي – لو صدّقناهم وجاريناهم – تقتضي أن ينشروا هذا الرّسم مرّةً واحدةً وانتهى الأمر، تكرار نشر هذه الرّسوم يعني رسالةً واضحةً غير غامضة: ( نحن نريد إذلالكم يا أيّها المسلمون، نحن نريد أن نهينكم أكثر ممّا أنتم هيّنون، نريد أن نقضي على البقيّة الباقية من كرامتكم وعزّتكم، نريد أن لا يبقى فيكم روح العزّة والكرامة، نريد أن نقضي على آخر رمقٍ من حياتكم يا أيّتها الأمّة الميّتة ) ولكن لم يكونوا يتوقّعون ردود الأفعال، الّذي حدث أشبهه بالآتي:
جسدٌ ملقىً أرضاً، العلامات كلّها تدلّ على أنّه جسدٌ ميْت، تكالب عليه أعداؤه هذا يرفس رجله وهذا يرفس يده وهذا يدوس على بطنه... ومع ذلك هذا الجسد لا يبدي أيّة ردّة فعل، هو مستسلمٌ تماماً لكلّ أشكال الإساءات وكأنّه هو الّذي قال فيه الشّاعر:
منْ يهنْ يسهلُ الهوانُ عليهِ * ما لجرحٍ بميـّتٍ إيـلامُ
اطمأنّ أعداء هذا الإنسان الميْت ظاهراً إلى موته، وجعلوا يُمعنون في إذلاله وإهانته، والدّوس على أعضائه، ولكنْ للمرّة الأولى يفكّرون بأنْ يرفسوا قلبه، فلمّا ركلوا قلبه انتفض ذلك الجسد وظهرت البقيّة الباقية من حياته؛ فتفجّرت الحياة في أوصاله كلّها وعادت الحياة إلى أعضائه كلّها، وهذا ما فاجأ هؤلاء الّذين اطمأنّوا إلى موت هذا الجسد وأمنوا ردود أفعاله، وظنّوا أنّهم مهما فعلوا به فلن يبدي حراكاً:
منْ يهنْ يسهلُ الهوانُ عليهِ * ما لجرحٍ بميـّتٍ إيـلامُ
هذا ما صنعه أعداؤنا بأمّتنا...
أمّةٌ مضى على أيّام عزّتها زمانٌ طويلٌ لم تذق خلاله طعم العزّة، ولّت أيّام كرامتها من زمنٍ بعيدٍ، لا يقلّ عن مئة عام، من انتهاء الخلافة الإسلاميّة في الحرب العالميّة الأولى وبُعيدها، وتقاسم الغرب الصّليبيّ لبلاد المسلمين، واستيلائهم على مقدّراتهم وتنفيذ مخطّطاتهم الخبيثة في بلادهم كان انتهاء عصور العزّة الطّويلة الّتي استغرقت ما يقارب ألفاً وثلاث مئة عام، ارتفع فيها المنحني البيانيّ وانخفض قليلاً، ولكنّ المحصّلة كانت مرتفعة عالية، ولكنْ في نهاية الحقبة العثمانيّة، في نهاية عصر الخلافة، وبعد الحرب العالميّة الأولى نسيت هذه الأمّة طعم العزّة، وودّعت مصطلحات: الكرامة والمجد والفخار والسّؤدد، واعتادت الذّلّ، واعتادت أن تكون بلاداً محكومة بعد أن كانت تحكم الأرض كلّها, واعتادت أن يكون قرارها بيد غيرها بعد أن كانت تقرّر مصير الشّرق والغرب, واعتادت أن تحسب حساباً لأصغر أعجمي وأذلّ إفرنجي بعد أن كان ملوك الأعاجم يحسبون لكلّ مواطن فيها حساباً, وبعد أن كان هارون الرّشيد يقول: ( من هارون الرّشيد أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الرّوم )... صار المسلمون ينظرون إلى كلّ روميّ مهما كان دنيئاً في بلاده على أنّه سيّد, وعلى أنّه شخصيّةٌ بارزةٌ يستحقّ أن يعظّم ويُقتدى به ويُقتفى أثره, أمن أولئك القوم ردود أفعال المسلمين وجعلوا يهينون أوصال هذا الجسد, تارةً يدوسون على يدٍ, وتارةً يقطعون إصبعاً, وتارةً يركلون قدماً, وتارةً يفقؤون عيناً, وهذا الجسد لا يبدي حراكاً, ينتفض انتفاضاتٍ قليلة، يرتجف ارتجافاتٍ وارتعاشاتٍ تدلّ على أنّه في أنفاسه الأخيرة أو لفظ أنفاسه الأخيرة, ولكن ما لم يكونوا يتوقّعون أنّه لازال في هذا الجسد قلبٌ نابضٌ، وقلبه النّابض هو محمّدٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم, الّذي ما إنْ مسّوه ووصلوا بإساءاتهم إليه حتّى سرت الحياة في الجسد مرةً أخرى, وعادت إليه الحميّة بعد أنْ كان قد نسيها من زمانٍ بعيد فذهلوا لما فعلوا.
لقد كانوا يريدون أمرين اثنين:
كانوا يريدون الإمعان في إذلال المسلمين وإهانتهم.
وكانوا يريدون اختبار ردود أفعالهم:
ترى أبقي في المسلمين رمق؟
أبقيت عندهم قابليّة للغضب؟ لردود الأفعال؟
وإن كان قد بقي عندهم ذلك فأيّ شعب عنده مثل ذلك؟
وإلى أي حدٍّ يمكن أن نحسب لهذا الشّعب حساباً؟
فإذا علمنا أنّ شعباً بعينه عنده مثل هذا سهُل علينا أن نستفرد به.
ما لم يكونوا يتوقعون أن تسري الحياة في كلّ أوصال الجسد بحيث لا يستطيعون أن يقطعوا كلّ أوصاله, الأمّة الإسلاميّة كلّها نهضت بعد أن كانت في سبات طويل استغرق عشرات السّنين، وربّ ضارّةٍ نافعة.
قال تعالى يخاطب نبيّه عليه الصّلاة والسّلام: { إنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ*} , نزلت هذه الآية في جماعةٍ من المشركين استهزؤوا بالنّبيّ عليه الصّلاة والسّلام فقتلوا جميعا شرّ قتلة، سلّط الله على كلّ واحد منهم هيئة قُتل بها أذلّه الله تعالى بها وأخزاه { إنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * } إذا كان الله يقول ذلك وهو الّذي قال:
{ أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ } , فلا ريب أنّ الله سبحانه سيفي وعده: { إنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ }، وقد بيّن لنا ربّنا سبحانه أنّ الاستهزاء بالنّبيّ عليه الصّلاة والسّلام ليس بِدْعاً من الأمر, وأنّ الاستهزاء بالأنبياء السّابقين دأب المشركين أعداء الحقّ فقال تعالى: { وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون } , إذا كان السّاخر من نبيّ من أفراد الأنبياء لا ينجو من فعلته الشّرّيرة فما بالك بمن سخر بالنّبيّ عليه الصّلاة والسّلام، { وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون } وكما أنّ الله سبحانه قد حفظ حرمة نبيّه عليه الصّلاة والسّلام حيّاً فقد حفظ حرمته بعد أن توفي, بل إنْ حرمة النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام بعد أنْ توفيَ وانتقل إلى الرّفيق الأعلى أعظم من حرمته يوم كان حيّاً, لقوله تعالى:
{ وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى } فبعد أن قُبض عليه الصّلاة والسّلام عظمت مكانته عند الله وعظمت حرمته عنده سبحانه, فصار الله جلّ وعلا أكثر انتصاراً وأشدّ دفاعاً عن نبيّه صلى الله عليه وسلم بعد وفاته ممّا كانت في حال حياته.
هذا لا يعفي المسلمين من مسؤوليّة دفع الضَّرِّ عن نبيّهم عليه الصّلاة والسّلام لأنّ الله جل وعلى جعل هذا أساس الفلاح وشرطه فقال تعالى: { فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } , فواجب على كلّ مسلم تعزير رسول الله عليه الصّلاة والسّلام والانتصار له.
وقد بيّن العلماء الأجلاّء – جمهورهم – أنّ المستهزئ برسول الله عليه الصّلاة والسّلام الشّاتمَ له علانيّة يستحق القتل المباشر ولا يستتاب, بخلاف الّذي يكفر بالإسلام، يرتدّ عن دين الله، يسب الذّات الإلهيّة, فإنّ أمثال هؤلاء يعاملون معاملة المرتدّ الّذي قال فيه عليه الصّلاة والسّلام: [ من بدل دينه فاقتلوه ] فلا يقتلون حتّى يستتابوا, يجتمع إليهم أهل العلم المختصّون بعلاج هذه المشكلات وحلّ هذه المعضلات الّذين يمتلكون الحجّة والبرهان بنقاش أهل الإلحاد وأهل الرّدّة فإذا حاوروهم وناظروهم وردّوا حججهم وفنّدوا أباطيلهم, وأصرّ أولئك المرتدّون على ردّتهم عندها يقتلون, أمّا سابّ النّبيّ عليه الصّلاة وسلام فيقتل فوراً وليست له توبة, لا داعي لاستتابته وإن تاب لا تقبل توبته فلا بدّ من قتله.
سأل هارون الرّشيد يوماً الإمام مالكَ بن أنس وهو أستاذه وشيخه عن هذه المسألة, عن حكم سابِّ النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام, قال يا إمام: إنّ بعض العلماء أفتَوا بجلده. ( يعني ألا ترخّص لنا وتفتي لنا بأنْ نأخذ بفتوى من أفتى بجلد سابِّ النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام وأن لا نقتله؟ ).
قال: فغضب الإمام مالكٌ غضباً شديداً وكاد يفارق المجلس لهذا الكلام الّذي يسمعه من هارونَ الرّشيد، وقال له: يا أمير المؤمنين أيّ خيرٍ في المسلمين إذا سبَّ نبيّهم صلّى الله عليه وسلّم؟! شاتم رسول الله يقتل شاتم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقتل.
أيّ خير في المسلمين إذا شتم نبيّهم صلّى الله عليه وسلّم وسكتوا ولم يقتلوا شاتمه؟!..
هذا ما يصنع بمن شتم رسول الله عليه الصّلاة والسّلام، وقد حدث هذا مراراً في عهد النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام في مكّةَ وفي المدينةِ من قبل عددٍ من صحابة النّبيّ الكرام رضوان الله عليهم وأقرّهم عليه الصّلاة والسّلام على ما صنعوا من قتلٍ لشاتميه صلوات الله وسلامه عليه.
الّذين استهزؤوا بالنّبيّ عليه الصّلاة والسّلام في هذه الصّحيفة بعيدون عنّا, ولكنّنا نستطيع أن نستغلَّ هذه الفرصة في إيجابيّاتٍ عديدةٍ جداً, أعظم هذه الإيجابيّات أنّ الأمّة الإسلاميّة يمكن أن تتوحّد ولا بدَّ من ترشيد هذه الوحدة واستثمار هذا الغضب على المدى البعيد لئلا يكون حالةً انفعاليّةً تولّي وتدبر كما يولِّي كثيرٌ من عواطف المسلمين الآنيّة الّتي لا يبقى لها أثر بعد أمدٍ قصير... لا بدّ من أن يستمر هذا الغضب, وأن يتحوّل إلى مؤسَّساتٍ ومنظّماتٍ واعيةٍ ناضجةٍ تستثمر هذا الانتفاض الّذي يدلُّ على حبٍّ عميق في نفوس المسلمين تجاه نبيّهم الكريم صلّى الله عليه وسلّم, لابدّ من أن يُوجَّه هذا الحبُّ باتجاهٍ بعيد الأمد حتّى يؤتي ثماره وحدةً لهذه الأمّة الّتي لا يمكن أن تجتمع على شيءٍ بقدر ما تجتمع حول قرآن ربّها وشخص نبيّها عليه الصّلاة والسّلام, ما سوى ذلك يمكن الاختلاف فيه, طبعاً هناك أمورٌ مجمعٌ عليها غير هذين الأمرين, ولكنْ قد لا يكون الاختلاف فيها مُخرجاً من الإسلام, قد يرى جماعةٌ من المسلمين أفضليّة عثمانَ على عليّ, قد يرى آخرون أفضليّة عليٍّ على عثمان, قد يرى جماعةٌ من المسلمين اتّباع مذهبٍ من المذاهب الأربعة, وقد يرى آخرون اتّباع عالم آخرَ غيرِ الأئمّة الأربعة، الأشياء الّتي يختلف فيها كثيرة, ولكنِ الأمران المجمع عليهما دون خلاف هما: كتابُ الله ورسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم اللّذان أشار إليهما ربّ العزّة في قوله:
{ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } .
{ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللهِ نُور }: صلوات الله وسلامه عليه هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، { وَكِتَابٌ مُّبِينٌ }: هو القرآن, فهما إذاً وجها الجمعِ ومظهرا الوحدة ما بين المسلمين أجمعين في كلّ أمصار الأرض وفي كلِّ أعصار الزّمان, وقد مرَّ على هذه الأمّة زمانٌ طويلٌ جداً من الفرقة والتّشتت, ليصدق بذلك نبوءة النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام إذْ قال: [ سألت ربّي ثلاث مسائل فأعطاني اثنتين وحجب عنّي واحدة، سألته أن لا يسلّط على أمّتي عدوٌّ من غيرهم يستحلّ بيضتهم فأعطاني ذلك، وسألته أن لا يُهلك أمّتي بسنةٍ فأعطاني ذلك، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فحجب عنّي ذلك ] , فهذا بلاءٌ ابتلى الله به هذه الأمّة, ولكنْ لا ينبغي أن نستسلم لهذا البلاء، فإمكانيّة الوحدة وأوجه الاجتماع كثيرةٌ متعددةٌ أعظمها حبّ المسلمين للنبيّ عليه الصّلاة والسّلام, فإنّ الحبَّ يمكن أن يذيب كلَّ الجليد الّذي فصل ما بين قارّات المسلمين حتّى تعود مرةً أخرى أرض الإسلام أرضاً واحدةً بتوحّدِ عواطف المسلمين تأييداً لنبيِّهم الكريم عليه الصّلاة والسّلام.
مضى زمانٌ وأعدائنا يظنّون أنّ المسلمين لا أمل في اجتماعهم, ولكن لمَّا رأوا وثبتهم الموحّدة من أقصى شرق الأرض إلى أقصى غربها ومن أقصى شمالها إلى أقصى جنوبها علموا أنّ الإسلام دينٌ حيٌ, وأن الأمّة المسلمة أمّةٌ تستمدُّ مقوماتِ بقائها من بقاء دينها الّذي حفظه الله وتكَفَّلَ برعايته وببقائه, فما دام هذا الدّين محفوظاً فالخير في الأمّة الإسلاميّة باقٍ محفوظ, واسمعوا إلى هذه البشارة لهذه الأمّة بأنّها أمّة لا تموت على لسان قسٍّ نصراني عرف الحقيقة إذ رآها أمامه متجليةً برجلٍ جسَّد الإسلام في سلوكه وأخلاقه وتصرّفاته, إنّه أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضوان الله عليه يومَ دخل بيت المقدس بذلك المظهر العجيب!! كأنّه ليس ذلك القائد الّذي يجيِّش هذه الجيوش ويوجّه هؤلاء القادة, وكأنّه ليس ذلك الأمير العظيم الّذي يحسب له ألف حساب كسرى وقيصرُ وسائر ملوك الأرض, وكأنّه ليس ذلك الّذي من مدينته ( المدينةِ المنوّرة ) يرسل التّعليمات إلى خالدٍ وأبي عبيدةَ وعمروِ بنِ العاص وسائر قوَّاد المسلمين في بقاع الأرض المختلفة, كأنّه ليس هو ذلك القائدَ العظيم إذ يدخل بيت المقدس ومعه حمارٌ ويلبس ثوباً مرقعاً فيه بضع عشرة رقعة, ومعه غلامه، غلامه راكبٌ وهو يمشي, يقود غلامَه يقود الدّابة لأنّه صار دور الغلام في الرّكوب، ومعه كيسٌ يخرج منه خبزاً يابساً ويأكل أمام هذه الحشود وأمام الجيوش المجتمعة الّتي تنتظر هذا القائد الخارق الّذي سمعت عنه حتّى كادت تظنّه كائناً أسطوريَّاً سينزل من السّماء, أو يخترق الأرض ويخرج من الأسفل, أو يأتيهم بجيوش تصل ما بين الشّامِ والمدينة, فإذا به يأتي طوالَ هذه المسافة ليس معه إلا خادمه رفيقه الّذي يؤانسه على الطّريق, جاءه أبو عبيدة بن الجراح, في رواية عمرو بن العاص, قال: يا أمير المؤمنين لو أصلحت من شأنك, لو أصلحت من شأنك فإنّ الرّوم ينظرون إلينا, ( جيوش الرّوم وقساوسة النّصارى ).
فقال: لو غيرُكَ قالها يا عمرو...( آه، لو سمعتها من غيرك انظر ماذا أفعل به ) لو غيرك قالها يا عمرو، نحن قومٌ أعزّنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزّة بغيره أذلّنا الله.
ممّن كانوا يراقبون ذلك المشهد "صفرونيوس" كبير أساقفة بيت المقدس، لمّا رأى ذلك صار يبكي، فجاءه الفاتح الرّحيم – الّذي تربّى في مدرسة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الرّحمة المهداة للعالمين – جاء إلى واحدٍ من القوم المغلوبين يواسيه ويخفّف عنه، يقول له: هوّن عليك هوّن عليك هكذا الدّنيا يومٌ لك ويومٌ عليك ( لا بأس، لا تحزن، الحرب سجال، اليوم انتصرنا لا ندري ماذا يحدث ).
قال: لا أبكي لأنّني هُزمت ولأنّ قومي قد خُذلوا، قال: إذاً لم تبكي؟! قال: لمّا سمعت عنكم ظننت أنّكم كالفاتحين الّذين جاؤوا من قبلكم إلى بلادنا، أتوها ثمّ غادروا وتركوها ولكن لمّا رأيتكم علمت أن دولتكم باقيةٌ إلى قيام السّاعة وأنّها ترقّ ولا تنقطع..
تضعف، تمرض،... ولكنّها لا تموت، هذه أمّة الإسلام.
كلّ أمّةٍ تمرّ بما يسمّى دورةً حضاريّةً كدورة حياة أيّ إنسان { اللهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً } وهكذا الأمم تبدأ ضعيفةً ثم تقوى وتصل الأوج، وبعد الأوج تبدأ بالانخفاض، كما قال الشّاعر الأندلسيّ:
لكلِّ شيءٍ إذا ما تمَّ نقصـانُ * فلا يغرَّ بطيبِ العيشِ إنسانُ
هيَ الأمور كما شاهدتُّها دولٌ * من سرَّهُ زمنٌ ساءتهُ أزمانُ
وغالب الأمم يمرّ بدورةٍ حضاريّةٍ واحدةٍ، أمّا أمّة الإسلام فإنّها مرّت بدوراتٍ حضاريّةٍ عديدة... تبدأ ضعيفة في البداية، ثمّ تقوى، ثمّ تضعف مرّة أخرى، يقول النّاس: ماتت، فإذا بها تبدأ بالقوة من جديد وتبدأ دورةً حضاريّةً جديدةً حتّى تصل الأوج، تضعف مرّة أخرى، يقول النّاس: انتهت، فتقوى مرة ثالثة.
فهي أمّةٌ لا تموت لأنّ حياتها مستمدّةٌ من بقاء شريعتها؛ وشريعتها محفوظة { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ * } .
من فوائد ما حصل في هذه الدّولة الصّليبيّة الدّنمارك الّتي تصرح بصليبيّتها من خلال علم بلادهم، وهذا طبعاً في كثير من بلاد أوربّيّة الصّليبيّة ظاهرة في علم البلد الدّنمارك، السّويد، بريطانيا، وغيرها كثير، سويسرا،... أعلامها تحوي الصّلبان، إضافةٍ لشركاتٍ تجاريّةٍ وصناعيّةٍ كثيرةٍ تصرّح بصليبيّتها، كثيرٌ من النّاس لا يتنبّهون لذلك، مثلاً سيارات "شيفروليت" شعارها الصّليب ومع ذلك أناس كثير يركبون هذه السّيارة ويدعمون هذه الشّركة الصّليبيّة الأمريكيّة!!
قلت لأحدهم: " طيّب " تركب هذه السّيارة لعلّك اشتريتها من زمنٍ بعيد، على الأقل اقلع هذا الصّليب..[ كان النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام لا يرى شيئاً فيه صلبانٌ إلاّ نقضه ] .
قال: والله ما انتبهت لذلك!
قلت: لو أنّك رأيت عبارةً فيها سبٌّ لشخصك أكنت تغفل عنها؟ أما كنت تتنبّه لها؟ عدم تنبّهك لهذا الشّيء دليلٌ على عدم اهتمامك به لأنّك غير مهتمٍ بما يتصل بدينك وعقيدتك، لهذا ترى ما يخالف هذا الدّين وما ينقض هذه العقيدة ولا تهتمّ ولا تشعر بوجوده أصلاً..، ولو كنت تحمل الهمّ في قلبك للفت انتباهك كلّ ما يتعلّق بهذا الهمّ.
الّذي سيحدث الآن بإذن الله تعالى فائدة أخرى، الفائدة الأولى إذاً هي التّوحد كما قال الشّاعر في ذلك:
لمّـتِ الآلامُ منّـا شملَنـا * ونمَـتْ ما بيننـا منْ نسـبِ
الخطوب والفتن تجعلنا نتّحد بعد طويل فرقة، وكما قال الشّاعر الآخر في الكلام عن فرقة النّاس ثمّ اتحادهم عند احتياجهم إلى الوحدة:
أصابعُ كفِّ المرءِ في العدِّ خمسةٌ * ولكنَّها في قبضةِ السّيفِ واحـدُ
نسأل الله أنْ يحدث هذا بهذه المناسبة كما حدث ذلك في العهود السّابقة؛ لمّا نشب الخلاف بين بعض المسلمين في عهود الأمويين اجتمع ملك الرّوم مع حاشتيه واستشارهم في غزو بلاد المسلمين في ذلك الحال، قال: الآن فرصةٌ سانحةٌ هم متفرّقون ولن يقووا على ردّ هجومنا في حال الفرقة، فأيّد جميع مستشاري الملك هذه الفكرة إلاّ رجلاً كبيراً في السّن عليه أمارات الحكمة بقي ساكتاً، قال الملك: لمَ لا تجيب؟ أعطِنا رأيك؟ قال: أعطيك رأيي غداً.
فُضَّ المجلس وجاء القوم في اليوم التّالي، قال الملك لذاك الشّيخ الحكيم: أعطنا رأيك. قال: تفضّلوا معي هناك مشهدٌ سأريكم إيّاه، ذهبوا إلى ساحة صراع الحيوانات حيث يلعبون بالسّباع، بالكلاب، بالأسود، أخرج كلبين وحرّش بينهما فجعلا يقتتلان ويعضّ أحدهما الآخر، حتّى أجهد كلّ منهما صاحبه، ولمّا وصلا إلى هذا الجهد والعناء الشّديدين فتح قفصاً كان فيه أسدٌ توجّه إلى الكلبين، فما إن رأى الكلبان هذا الأسد متوجّهاً إليهما حتّى وقفا جنباً إلى جنب واتحدا في وجه هذا العدو المشترك وانقضّا عليه معاً.
فقال ذلك الرّجل للملك وأصحابه: مثلنا ومثل العرب كمثل هذين الكلبين وهذا الأسد، هم اليوم مفترقون ولكنْ ما أنْ يرونا قد توجّهنا وجهتهم حتّى يتّحدوا وينسوا خلافاتهم.
طبعاً هذا عندما يكون المسلمون في حالة الصّحو، أمّا عندما يُخدَّروُن فالعكس، يأتي أعداؤهم ليعينوا بعضهم على بعض فيستعينون بهم ولا يقصرّون، ولكن في حالة الصّحو لا يرضى المسلم أن يستعين بعدوه على أخيه.
وقد حدث مثل هذا في عهد الفتنة ما بين سيّدنا عليٍّ وسيّدنا معاوية، إذ أرسل ملك الرّوم إلى سيّدنا معاوية يعرض عليه الدّعم والتّأييد، قال له: إن شئت أرسلت لك جيشاً يعينك في حربك على عليّ بن أبي طالب، وكما تعلمون الحرب استغرقت سنين، معركة صفّين كانت مظهراً من مظاهر هذه الحرب، كانت حرباً سياسيّة في الدّرجة الأولى وأخذت بعض المظاهر العسكريّة في بعض الحالات بسبب اختلاف الآراء، وكلّهم مأجورٌ، الّذي أخطأ منهم له أجرٌ واحد والّذي أصاب له أجران، فماذا أجاب معاوية رضي الله عنه ملك الرّوم؟ أرسل إليه رسالةً قال: والله لئنْ فعلت ما تكلّمت عنه في رسالتك لأتاك المسلمون في جيشٍ أوّله عندك وآخره عندنا يقوده عليُّ بن أبي طالبٍ وأنا واحدٌ من جنوده... ( خلافات بيننا لا تتدخّل، نحن نختلف اليوم ثمّ نتصالح غداً لأنّ الإسلام يجمع ما بيننا، وأمّا أنت فإنّك عدوٌّ مشترك لنا لأنّك عدوّ عقيدة وأمّا نحن فإنّنا مختلفون في وجهات النّظر في الآراء الجزئيّة الثّانويّة ولكنّنا متّحدون في العقيدة متّحدون في المبادئ ) .
الفائدة الثّانية كما بيّنت هي أنّ هذه المعركة الّتي شنّوها ضدّ الإسلام ستنعكس عليهم لا محالة؛ فالأمّة الإسلاميّة لا يمكن تهدئتها، يمكن أن يجريَ اتفاق فيما بينهم وبين حكّام المسلمين وبين حكومات المسلمين وبين وسائل إعلام المسلمين، ولكن هذا الشّعب من يهدئه، هذا الشّعب إن سمع الحكّام يقولون: اتفقنا مع الدّنمارك وسائر الدّول الأوربّيّة وقرّرنا أن ننهي المقاطعة...!
الشّعب ينتظر قراراً مثل هذا؟ لقد قرّر الشّعب أن يقاطع كلّ شيءٍ اسمه دنمارك إلى ما شاء الله، ولو اعتذرت الدّنمارك فلن يعودوا إلى سابق عهدهم بالعلاقات، على كلّ الأصعدة، على كلّ المستويات...إلى حدّ أنّ بعض الموفدين إلى منتدى جدّة الاقتصاديّ من بضعة أيّام جاؤوا من الدّنمارك فرفض المنتدى استقبالهم، يعني مقاطعة على كلّ الأصعدة، الشّعب الآن لم يعد يهنأ بأكل الأطعمة الدّنماركيّة فإذا اعتذرت الدّنمارك فهل سوف يستسيغ النّاس أن يعودوا إلى أكلها؟ لا.. المقاطعة ستستمر إلى أن يذلّوا من حاول إهانة النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام، ولا يجوز أن نقول: من أهان النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام لأنّ النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام لا يهينه أمثال هؤلاء.
هو عزيز كريم لا يستطيعون إهانته لا يجوز أن نقول: أهانوا رسول الله عليه الصّلاة والسّلام أبداً لا يجوز ذلك، نقول: أساؤوا إلى رسول الله عليه الصّلاة والسّلام نعم، حاولوا إهانته ولكنْ ما استطاعوا ولن يستطيعوا؛ لأنّه عزيز بعزّة الله { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ * } فمن ادّعى أنّ أحداً يستطيع أن يهين رسول الله عليه الصّلاة والسّلام فهو إذاً ليس مؤمناً بالله وليس مؤمناً برسول الله عليه الصّلاة والسّلام وليس مؤمناً بالحقائق القرآنيّة التي تقرّر العزّة المطلقة للنّبيّ المصطفى عليه الصّلاة والسّلام { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ * } إذاً هذه الحرب ستنعكس عليهم.
الأمّة الإسلاميّة أمّةٌ قويّةٌ ولكنّها كادت تنسى هذه الحقيقة، وكادت تظنّ أنّها أمّةٌ متأصلٌ فيها الضَّعف، في العادة نسمع أنّ أمريكا وأوربّا والأمم المتّحدة تريد أن تفرض حرباً اقتصاديّةً على الدّولة الفلانيّة من دول العالم الإسلامي أو من الدّول المستضعفة الأخرى سوى الدّول الإسلاميّة، تريد أن تجري مقاطعة تريد أن تجري حظراً اقتصاديّاً.. وتنجح في كثير من الأحوال تجوّع شعب العراق تمنع ليبيا من الاستيراد والتّصدير تحارب سوريّا تحارب إيران.. ولكنْ للّمرة الأولى في التّاريخ الحديث الدّول الإسلاميّة تجري حظراً اقتصادياً على دولةٍ أوربّيّة من العالم الأوّل!! دول العالم الثّالث تفرض حظراً على دول العالم الأوّل من دون أممٍ متّحدة ومن دون قرارات دوليّة!! هذا أمرٌ ما كانوا يتوقعونه، هم دائماً يمسكون بهذا السّلاح يهدّدون به من يخرج عن آرائهم، فإذا بهذا السّلاح ينعكس عليهم، لقد علّمونا شيئاً اسمه ( مقاطعة اقتصاديّة ) ما كنّا نعرفه هم علمونا إيّاه، كلّما غضبوا على دولة قالوا: سنقاطعها اقتصادياً لن نستورد لن نصدّر، جميل! استفدنا من هذه الفكرة ومن دون أن نحتاج إلى قرارات.
القرارات تمنع الاستيراد والتّصدير، هنا لا، الاستيراد والتّصدير مستمرّان ولكنْ الشّعب ما عاد يشتري، المسألة لا يمكن أن تفرض عليه بالقسر، الدّول مرتبطةٌ باتفاقيّاتٍ دوليّةٍ، قد لا تستطيع الدّولة أن تجري حظراً اقتصادياً على تلك الدّولة من أجل أمرٍ أو أمرٍ آخر، والدّولة ستبقي المعاملات مفتوحة، والأمم المتّحدة ستلزم هذه الدّولة بأن تبقيَ المعاملات التّجاريّة مفتوحة، ولكنْ من يلزمك أنْ تأكل زبدة: " لورباك "؟ هل أحد يستطيع أن يجبرك على ذلك؟، هل أحدٌ يستطيع أن يجبرك على أن تأكل علكة: " ستيمورول "؟ أو أن تتناول جبنة: " بوك "؟، هل أحد يستطيع أن يمسك السّيف فيقول: لك هيا اشترِ من هذه لا تشترِ من تلك؟؟ هذه حريّة شخصيّة، فكيف يمكن أن نتصوّر أنّ مليار مسلم يمارس الحريّة الشّخصيّة بطريقةٍ واحدة!! شيء عجيب!! كلّهم أجمعوا على أنّهم لا يريدون هذا.
حتّى كاليفورنيا صارت تقاطع، كما أخبر مسلمٌ يعيش في تلك البلاد، قال: دخل بقاليّةً - سوقاً كبيراً - تبيع فيه امرأةٌ، صاحبة المتجر امرأةٌ مسلمة، فصار يكلّمها عن المقاطعة ويكلّمها عن الدّنمارك وما أساءت.. حتّى اقتنعت فقرّرت أن تقاطع كلّ البضائع الدّنماركيّة وأن لا تبيعها، فطلبت منه أن يأتيها بقائمةٍ مفصلّةٍ بهذه البضائع! حتّى في أمريكا صارت المقاطعة سارية المفعول بالنّسبة للمسلمين!
المسلمون في كلّ الأرض صاروا يقاطعون
في العادة الدّول الصّغير الدّول الضَّعيفة تستجدي رضى الدّول القويّة، وفي كثيرٍ من الأحوال حكّام الدّول الصّغيرة يزورون حكّام الدّول القويّة ولا يستقبلونهم.. كما حدث مع أمير قطر مرّةً عندما ذهب إلى أمريكا وطلب مقابلة زعيم البيت الأبيض بيل كلينتون آنذاك.
فقالوا له: إنّه مشغول عنده في هذا الوقت عنده مباراة غولف! ورجع صاغراً إلى بلده ولم يرض استقباله..
الشّعب المسلم قلب المعادلة! جورج بوش يطلب من السّعوديّة التّدخل لإنهاء المقاطعة الإسلاميّة للبضائع الدّنماركيّة!! هذا ما حدث الآن الرّئيس الأمريكي يطلب الآن من ملك دولةٍ عربيّةٍ أن يتدخل ( رجاءً، أتوسل إليكم ما الّذي حدث؟! ماذا صنعنا؟! كلّ ما الأمر أنّنا رسمنا رسوماً كاريكاتيريّة! ) لم يتوقعوا أن يحدث كلّ هذا الانتفاض، إذاً ينبغي أن يعرفوا أنّ المسلمين أقوياء، وبقدر ما يلتفّون حول نبيّهم عليه الصّلاة والسّلام يزدادون قوة.
من الفوائد العظيمة الّتي سنحصّلها وسيحصّلها ديننا من وراء هذه الأمور: أنّها ستكون مناسبةً لتعريف الغرب بالمسلمين والإسلام، الوضع الّذي يحدث الآن يشبه تماماً الظّروف الّذي سبقت الحروب الصّليبيّة، حشدٌ معنويٌّ شديدٌ في أوربّا لعامّة النّاس ضدّ المسلمين هذا ما حدث قبل الحروب الصّليبيّة، تعاون في هذا الحشد الملوك والقساوسة، وكانوا يريدون - الفريقان معاً - مصالح سياسيّةً واقتصاديّةً، ولكنْ الشّعب غافلٌ عن هذه المصالح؛ فأثاروه وحرّكوا عواطفه عن طريق الصّليب وعن طريق استثارة الحماسة الدّينيّة، وتجاوب الشّعب.
كان شعباً همجيّاً متخلّفاً أحمق لا يعرف من أصول الحضارة شيئاً آنذاك, وقام ذلك الشّعب الأوربّيّ باتجاه بلاد المسلمين، الفساد لم يقتصر على بلاد المسلمين، الشّعوب الّتي اتّجهت في هذه الحملة الصّليبيّة دمّرت البلاد الأوربّيّة الّتي مرّت بها، وعاثت في البلاد الأوربّيّة فساداً، سلباً ونهباً وسرقةً واغتصاباً وقتلاً، كانت شعوباً متخلّفةً.. في حضيض دركات التّخلف.
اليوم يحاولون أن يثيروا حرباً صليبيّة أخرى، من عدّة أيّام وزيرٌ في الحكومة الإيطاليّة طلب من بابا الفاتيكان أن يعلن الحرب الصّليبيّة على العالم الإسلامي!! ردّاً على ما يفعله المسلمون.. صار شيئاً علنياً صريحاً..
الدّنمارك الآن تحاول أن تخرج من مأزقها من دون أن تعتذر، لأنّ الاعتذار يعني تراجعاً عن مبدأ هو: ( العداء للإسلام ) وفي الظّاهر يقولون: الاعتذار تراجعٌ عن مبدأ هو حرّيّة التّعبير.
في الحقيقة الاعتذار تراجعٌ عن مبدأ محاربة الإسلام، لذلك لا يريدون الاعتذار، فكيف الخروج من المأزق إذا لم يكونوا مستعدّين للاعتذار؟
أولاً ينفقون أموالاً ضخمةً في الدعاية المضادّة الّتي تروّج لمبدأ حرّيّة التّعبير ولأنّهم لم يفعلوا شيئاً خاطئاً، وخاصّة في الإعلام العربيّ النّاطق بلساننا.
طبعاً وسائل إعلامهم تستخدم ذلك كثيراً، في مواقع الإنترنت، وفي الصّحف، وفي القنوات الفضائيّة:
استطلاعاتٌ للرّأي: هل تؤيّد ما فعلته الصّحيفة؟
غالبيّة الشّعب: نعم.
لو كنت في موضع هذا الرّسام هل كنت ستفعل مثل ما فعل؟ غالبيّة الشّعب يقول: نعم.
هل تؤيّد ما فعله المسلمون في ردود أفعالهم؟ غالبيّة الشّعب يقولون؟ لا.
يحاولون أن يقابلوا التّيّار الشّعبيّ العارم في البلاد الإسلاميّة بتيّارٍ شعبيٍّ مضاد، ولكن لن يستطيعوا، لأنّه لا يجمعهم مثل الّذي يجمعنا، ويحاولون أن يدفعوا لوسائل الإعلام القابلة للرّشوة والقابلة لبيع المبادئ في بلادنا حتّى تروّج لأفكارهم، فمنها على سبيل المثال: جريدة ( الشّرق الأوسط ) الصّادرة في لندن المحسوبة على بعض السّعوديّين، ومنها: قناة ( العربيّة ) الّتي تبثّ من دبيّ، والّتي يملكها بعض السّعوديّين، والّتي لها توجّهٌ علمانيٌّ محاربٌ للإسلام محاربٌ للفضيلة والأخلاق، علناً جهاراً نهاراً بدون حياءٍ ولا خجل، تحاول الآن أن تُخرج الدّنمارك من مأزقها وأن تبرّئها وأن تبيّن أنّهم اعتذروا: " الجماعة اعتذروا ".
مع أنّهم ما اعتذروا، وقد أقسم رئيس وزراء الدّنمارك أقسم أمام شعبه إنّه لن يعتذر.
وبعضهم يقول: " طيّب " هذه صحيفة لا علاقة لنا بها.
لا، هذه الصّحيفة ( يولاندس بوستن، Jyallands - posten ) الّتي نشرت هذه الرّسوم هي الصّحيفة الأوسع انتشاراً في الدّنمارك، وهي صحيفةٌ ناطقةٌ بلسان الحزب الحاكم الّذي ينتسب إليه رئيس الوزراء، ثمّ إنّ رئيس الوزراء قبل أن تنشر الصّحيفة هذه الرّسوم كان قد صرّح من زمنٍ: ( بأنّ المسلمين حثالة )!!
( المسلمون حثالة )!! في رأي رئيس الوزراء هذا الّذي يطالبه البعض بالاعتذار، كيف يعتذر من أناسٍ هكذا ينظر إليهم؟؟.
وملكة الدّنمارك نشرت مذكّراتها، مذكّراتها الآن تتداول في الأسواق، وضمنها تقول: ( يجب إخراج أتباع دين محمّدٍ الإرهابيّين من بلادنا من الدّنمارك )!! تدعو إلى إخراجهم، تدعو إلى العنف والتّمييز العنصريّ ضدّهم.
إذاً هم صليبيّون حاقدون بمعنى الكلمة.
ومن الوسائل الّتي يستخدمونها الآن: الاستعانة بصحفٍ أخرى وبوسائل إعلامٍ أخرى تنشر هذه الرّسوم مرّةً ثانيةً، ليقولوا لنا: ( " طيّب " تريدون أن تقاطعونا من أجل الرّسوم؟ هاهي ذي الصحيفةٌ الفرنسيّةٌ ( فرانس سوار،France Soir )، وهاهي ذي صحيفةٌ ألمانيّة، وهاهي ذي صحيفةٌ بولنديّة، وها هي ذي صحيفةٌ "إسرائيليّة"، وها هي ذي صحيفةٌ أمريكيّة تنشر الرّسوم وتعيد نشرها مرّةً أخرى...، قاطعوا هذه البلدان كلّها.. لن تستطيعوا أن تقاطعوا العالم كلّه ).
ما جوابنا على مثل هذا؟ هل نقاطع كلّ هذه البلدان أم لا نقاطع؟ لا، لا نقاطع، نقول: نحن لا شأن لنا بهذه، نحن شأننا مع من نشر الرّسوم لأوّل مرّة.
يريدون تشتيت المقاطعة، لأنّ مقاطعة كلّ هذه البلدان أمرٌ مستبعدٌ صعبٌ جدّاً.
سنقول لهم: ( لن تخدعونا، ولن تشتّتوا جهودنا ).
الّذي يلحق بسارقين لا يمسك أيّ واحدٍ منهما، سارقٌ يسرق والثّاني يقول لك:
( الحقني ) تلحق هذا أم هذا؟ تضيع، هكذا يريدون أن يفعلوا.
نقول: ( أمامنا عدوٌّ واحدٌ مبدئيّاً، فإذا أذللنا هذا العدوّ انكسرت شوكة الصّليبيّين في سائر البلدان )، لذلك نقول لهم: ( انشروا ما تشاءون نحن لا نريد الآن إلاّ الدّنمارك..).
قال بعضهم: ( " طيّب " أمريكا دنّست المصحف في غوانتناموا وفعلت أشياء أخطر ممّا فعلته الدّنمارك فلم لم نحاربها؟ )
نقول: لعلّ السّبب - طبعاً بتحليل المسألة اجتماعيّاً - لعلّ السّبب أنّ أمريكا قد دأبت على محاربة الإسلام، فلمّا فعلت ما فعلت لم يكن ذلك مُستغرباً.. نشرت تزييفاً للقرآن سمّته الفرقان الحقّ.. واحتلّت بلاد المسلمين.. ودنّست المصحف.. ودخلت المساجد في العراق.. ودعمت اليهود الصّهاينة في فلسطين.. فلعلّ المسلمين اعتادوا على ذلك لذلك لم ينتفضوا عندما سمعوا ما تفعل أمريكا، ولكن لمّا جاء الأمر من دولةٍ أخرى شعروا أنّها فرصة لإثبات وجودهم، لا بأس في ذلك، لا نقول لهم: بما أنّكم لم تنتفضوا ضدّ أمريكا فلا تنتفضوا ضدّ غيرها، إذا ثارت الحياة الآن فلا بأس، فيما بعد عندما يقوى المسلمون يلتفتون إلى الأعداء السّابقين القدامى.
ثمّ سببٌ آخر: لعلّه أنّ الإساءة الآن توجّهت إلى شخص النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام، وهذا ما يعدّ خطاً أحمرَ غليظاً جدّاً في نفوس المسلمين، لا يستطيعون السّكوت عنه أبداً، ولهذا ينبغي أن تستمرّ المقاطعة وأن توجّه باتّجاه الدّنمارك خاصّة.
الدّنمارك خائفةٌ من أن تستمرّ المقاطعة ضدّها، لذلك تقول: ( يا أوربّيّون يا أمريكان يا جماعة الصّليبيّين والصّهاينة من أبناء جلدتي وإخواني ناصروني وشاركوني حتّى لا يستطيع المسلمون أن يقاطعونا جميعاً ).
نقول: مهما نشرتم فسوف نقاطع الجميع، وهذا ما صارت تحسب حساباً له دولٌ أخرى، مثل النّرويج الّتي نشرت هذه الرّسومات بعد الدّنمارك مباشرةً، فلمّا رأت النّرويج ردود أفعال المسلمين اعتذرت سريعاً، الدّنمارك الآن مكابرة، النّرويج لا تريد المكابرة ولا تريد العناد اعتذرت على لسان نائب وزير الخارجيّة النّرويجيّ، وحذفت الرّسوم من الصّحيفة وما عادت إلى نشرها مرّةً أخرى.
( بي بي سيBBC ) نشرت في قناتها الفضائيّة بعضاً من هذه الرّسوم لا بنيّة الإساءة فيما زعموا... ولكن بنيّة التّعريف ليقولوا: انظروا إلى هذه الرّسوم ما أسوأها وما أقبحها حتّى ثار المسلمون ضدّها، فثار المسلمون في بريطانيا ضد
( بي بي سيBBC ) لأنّها نشرت هذه الرّسوم على سبيل التّعريف!! فاضطرّت
( بي بي سي BBC ) للاعتذار...وإلى الآن يوجد على موقع ( بي بي سيBBC ) في " الإنترنت " اعتذارٌ توضيحيٌّ تبيّن فيه أنّها نشرت هذه الرّسوم بحسن نيّة:
( لا تؤاخذونا نحن نعتذر )...
صحيفة أردنيّة هي صحيفة ( شيحان ) نشرت هذه الرّسوم، وهي صحيفةٌ مشبوهةٌ، ومع الرّسوم كان رئيس التّحرير يكتب، فأفاد في مقاله: ( بأنّ المسلمين انتفضوا ضدّ هذه الرّسوم هذا حقٌ لهم؛ ولكن أليس من الأولى أن ينتفضوا ضدّ الإرهابيّين أن ينتفضوا ضدّ المتطرّفين... وما إلى ذلك )!!
الحكومة الأردنيّة أوقفته للتّحقيق، ونقابة الصّحفيّين الأردنيّين، وشركة المطبوعات الّتي توزّع الصّحيفة عزلته من عضويّتها... وهكذا ردود الأفعال الإسلاميّة كانت غاضبةً جدّاً في المجتمع الأردنيّ بحيث لا يتجرّأ واحدٌ آخر ليفعل مثل هذا الفعل مرّةً أخرى.
إذاً ردّةٌ شعبيّةٌ ورسميّةٌ، اجتماعيّةٌ وحكوميّةٌ عامّةٌ... السّعوديّة استدعت سفيرها، سوريّا استدعت سفيرها، ليبيا قطعت العلاقات، إيران قطعت كلّ العلاقات بما في ذلك العلاقات الاقتصاديّة ( الاستيراد والتّصدير ) وكلّ العقود ألغتها، شاركت كلّ الحكومات الإسلاميّة شعوبها، الآن ( رجب طيّب أردغان ) التّركيّ يدعو إلى قرارٍ دوليٍّ في الأمم المتّحدة يدين نشر هذه الرّسوم.
واحد يقول: ( كلّ هذا من أجل رسوم؟؟!! ).
نقول: لا كلّ هذا من أجل أعظم الخلق... صلّى الله عليه وسلّم، وهو يستحقّ أكثر من هذا بكثير، يستحقّ أن نفديه بأرواحنا وآبائنا وأمهاتنا، كما قال ذاك الصّحابيّ الجليل ( ما أحبّ أنّي آمنٌ بين أهلي ومحمّدٌ يشاك بشوكةٍ في عقب قدمه ) صلّى الله عليه وسلّم، حتّى قالوا، وقال ذلك المشرك : ( ما رأيت أحداً يحبّ أحداً كحبّ أصحاب محمّدٍ محمّداً ) صلوات الله وسلامه عليه.
فلا بدّ إذاً من أن تُرَشَّد هذه الصّحوة ومن أن يُوَجَّه هذا الغضب بالاتّجاه الصّحيح حتّى يثمر ثمراتٍ طيّبة.
الآن المجتمع الدّنماركيّ سيسأل، كما قلت الحرب صليبيّة، ولكن الفرق بين حرب الصّليبيّة السّابقة والحرب الصّليبيّة اللاّحقة فرقٌ مهمّ لمصلحة المسلمين.
ما هو؟: في تلك الحرب الصّليبيّة انقادت الشّعوب لإرادة الملوك والقساوسة بجهلٍ وعمىً، وأمّا اليوم فإنّ الشّعوب الأوربّيّة صار بإمكانها أن تسأل: ما هو هذا الإسلام؟ ومن هو هذا الشّخص؟ وما هو هذا القرآن؟
الإعلام صار خادماً لنا مع أنّهم هم الّذين اخترعوا معظم وسائله، ولكنّه يخدمنا الآن أكثر ممّا يخدمهم، التّواصل معهم سهل، في أيّام الحروب الصّليبيّة الأولى لم يكن هناك مجالٌ للتّواصل، شُحنوا بالبغضاء والحقد وتوجّهوا إلى بلادنا، فلم يلتقوا بنا إلاّ بعد أن وصلوا والتقوا في حالة حرب، أمّا الآن المسلمون موجودون في كلّ بلاد الغرب، وسائل الإعلام الإسلاميّة تصل إلى كلّ بلاد الغرب، مواقع "الإنترنت" الإسلاميّة النّاطقة بكلّ اللّغات متاحةٌ في كلّ بلاد العالم، هذا سيساعد على فهم الإسلام أكثر، لن تكون المجتمعات الغربيّة بأسرها مع حكوماتها ضدّ الإسلام ومع الصّهيونيّة والماسونيّة ضدّ الإسلام، بل ستنقسم الشّعوب الأوربّيّة، كثيرون منهم سيصيرون مع الإسلام ضدّ حكوماتهم ومَنْ وراءَ حكوماتهم من صهاينة وماسونيّين.
سوف يسألون، وقد بدؤوا يسألون: ما سرّ هذا الإسلام؟ ومن هو هذا الشّخص الّذي مات من أكثر من ألفٍ وأربع مئة عام؟ رسومٌ تنشر في صحيفةٍ في الدّنمارك عليها تعليقات بلغة دنماركيّة لا يفهمها المسلمون كلّهم، تثور من أجلها ثائرة أكثر من مليار إنسان في أرجاء الأرض!! من هو هذا الإنسان؟! والله أمره عجيب!! النّصارى يرون المسيح يُستهزأ به ولا يتأثّرون لذلك، ما من شعبٍ يعظّم زعيمه كما يعظّم هؤلاء المسلمون زعيمهم فما قصّته؟
سيبحثون عن قصّته، فيتساءلون والإنسان عدوّ ما يجهله، فماداموا جاهلين بنا وبديننا وبنبيّنا عليه الصّلاة والسّلام فسيعادوننا، ولكن ما إن يتعرّفوا علينا وعلى نبيّنا عليه الصّلاة والسّلام حتّى يحبّوه، وما أعظم هذا الوصف الّذي وُصِف به رسول الله عليه الصّلاة والسّلام [ من رآه بديهةً هابه، ومن خالطه معرفةً أحبّه ] صلّى الله عليه وسلّم، فلا يملك أحدٌ يعرف النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ألاّ يحبّه، إلاّ أن يكون حاقداً صاحب موقفٍ وصاحب مبدأٍ شرير، وأمّا إن كان إنساناً موضوعيّاً محايداً فلا يملك أن لا يحبّ النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام بعد أن يتعرّف عليه.
هذه فرصةٌ للتّعرّف على رسول الله عليه الصّلاة والسّلام، والدّنمارك دولةٌ صغيرة وإن كانت الغالبيّة منهم صليبيّين والآن لا يزالون مع حكومتهم ولكن الآن بداية التّعرّف.
سوف يتعرّفون على الإسلام مُمثّلاً برسول لله صلّى الله عليه وسلّم، سيسألون المسلمين في تلك البلاد هذه الوسيلة الأولى، وسوف يقرؤون الكتب، وسوف يدخلون إلى " الإنترنت " وسوف يعرفون أشياء ما كانوا يعرفونها، حكومتهم نبّهتهم إلى هذه الأشياء، حكومتهم فتحت أعينهم على التّعرّف على هذا الإسلام العظيم بعد أن كانوا غافلين عنه، أرادوا أن يُميتوا الإسلام بالضَّربة القاضية الّتي تُسيء إلى النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام فإذا بهذه الضَّربة هي الضَّربة المحيية الّتي أعادت إلى الإسلامِ روحَه وعرّفت شعوب الأرض على هذا الدّين من جديد لتبدأ دورةٌ حضاريّةٌ جديدةٌ بإذن الله، وليبدأ المسلمون بالنّهوض نهضةً جديدةً.
أسأل الله أن تكون هذه بدايتها وأن يجعلنا ممّن يحملون لوائها ويضعون لبناتها إنّه خير مسؤولٍ وأكرم مجيب والحمد لله ربّ العالمين.
اللّهمّ إنّك عفوٌّ تحبّ العفو فاعفُ عنّا، اللّهمّ انصر الإسلام وأعزّ المسلمين، وأهلِكِ الكفرة والملحدين أعداءك أعداء الدّين، اللّهمّ اجزِ عنّا نبيّنا محمّداً صلّى الله عليه وسلّم خير ما جزيت نبيّاً عن أمّته اللّهمّ اجزِ عنّا نبيّنا محمّداً صلّى الله عليه وسلّم ما أنت أهله، اللّهمّ اجعل ما عملنا من عملٍ وما علِمنا من علمٍ وما علّمنا من تعليمٍ في صحيفة أعمال نبيّنك محمّدٍ صلّى الله عليه وسلّم، اللّهمّ ردّنا إلى سنّته ردّاً جميلاً، اللّهمّ ارزقنا محبّته، اللّهمّ وارزقنا اتّباع شريعته، اللّهمّ وارزقنا تمثّل سنّته، اللّهمّ إنّا نسألك حبّك وحبّ من يحبّك وحبّ العمل الّذي يقرّبنا إلى حبّك، اللّهمّ إنّا نسألك حبّك وحبّ من يحبّك وحبّ العمل الّذي يقرّبنا إلى حبّك، اللّهمّ انصر الإسلام بنا وانصرنا به، اللّهمّ أعزّ الإسلام بنا وأعزّنا به، اللّهمّ ردّنا إليك ردّاً جميلاً، وصلّ اللّهمّ على سيّدنا محمّدٍ وعلى آله وصحبه وسلّم.

الملفات الصوتية
الملف الأول
أرسل هذه الصفحة إلى صديق
اسمك
بريدك الإلكتروني
بريد صديقك
رسالة مختصرة


المواضيع المختارة
مختارات

[حسن الظن بالله]

حسن الظن بالله يعني أن يعمل العبد عملاً صالحاً ثم يرجو قبوله من الله تعالى ، وأن يتوب العبد إلى الله تعالى من ذنب عمله ثم يرجو قبول الله تعالى لتوبته ، حسن الظن بالله هو ذاك الظن الجميل الذي يأتي بعد الفعل الجميل.
يقول النبي عليه الصلاة والسلام : {لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى.}
قال سبحانه في الحديث القدسي :{ أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني } أنا عند ظن عبدي بي فإذا ظننت أنه يرحمك وأخذت بأسباب الرحمة فسوف يرحمك ، وأما إن يئست من رحمته وقصرت في طلب أسبابها فإنه لن يعطيك هذه الرحمة لأنك حكمت على نفسك والله تعالى سيحكم عليك بما حكمت أنت على نفسك .