التوحيد > أوّل واجبات المكلّف
أوّل واجبات المكلّف

أوّل واجبات المكلّف

الدّرس السادس: ( أوّل واجبات المكلّف ):
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله ربّ العالمين وأفضل الصّلاة وأتمّ التّسليم على سيّدنا محمّدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللّهمّ لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك سبحانك لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، ربّنا لك الحمد ملء السّماوات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيءٍ بعد، ربّنا لك الحمد حمداً كثيراً طيّباً مباركاً فيه، لك الحمد حتّى ترضى ولك الحمد بعد أن ترضى، اللّهمّ تبرّأنا إليك من أنفسنا ولجأنا إليك، تبرّأنا إليك من حولنا وعلمنا وقوتنا ولجأنا إلى حولك وعلمك وقوتك فإنّك أنت القويّ ونحن الضّعفاء وإنّك أنت الغنيّ ونحن الفقراء وإنّك أنت العزيز ونحن الأذلاّء وإنّك أنت القدير ونحن العاجزون وإنّك أنت العليم ونحن الجاهلون وإنّك أنت علاّم الغيوب، ربّنا لاتكلنا إلى أنفسنا ولا إلى غيرك طرفة عينٍ ولا أقلّ من ذلك وأصلح لنا شأننا كلّه في الدّين والدّنيا والآخرة، اللّهمّ لا توجّه قلوبنا إلاّ إليك، ولا تجعل اعتمادنا إلاّ عليك، اللّهمّ يا واصل المنقطعين أوصلنا إليك ولا تقطعنا بالأغيار عنك، اللّهمّ طهّر قلوبنا من النّفاق وأعمالنا من الرّياء وألسنتنا من الكذب وأعيننا من الخيانة، اللّهمّ إنّا نعوذ بك من الشّقاق والنّفاق وسوء الأخلاق، اللّهمّ آت نفوسنا تقواها زكّها أنت خير من زكّاها أنت وليّها ومولاها، اللّهم إنّا نسألك نفوساً بك مطمئنّة تؤمن بلقائك وترضى بقضائك وتقنع بعطائك، ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمةً إنّك أنت الوهّاب، اللّهمّ اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أعمارنا أواخرها وخير أيّامنا يوم نلقاك، اللّهمّ صلّ على سيّدنا محمّدٍ الفاتح لما أغلق والخاتم لما سبق والنّاصر الحقَّ بالحقِّ والهادي إلى صراطك المستقيم وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً كثيرا والحمد لله ربّ العالمين.
اختلفت آراء علماء التّوحيد في الفريضة الأولى الّتي يُطالب بها المُكلّفون، وتعدّدت آراؤهم ولكنّ الأرجح منها رأيان والصّواب أحدهما، فمنهم من قال: إنّ أوّل ما يجب على المكلّف هو النّظر، ومنهم من قال: إنّ أوّل ما يجب على المكلّف هو المعرفة، ومنهم من قال: إنّ أوّل ما يجب على المكلّف هو الشّكّ، ومنهم من قال: إنّ أوّل ما يجب على المكلّف هو النّطق بالشّاهدتين، ومنهم من قال: إنّ أوّل ما يجب على المكلّف هو القصد إلى النّظر، اختلفت الآراء إذاً، ولكنّ الرّاجح من هذه الآراء اثنان كما قلنا، فالّذين قالوا إنّ الأوّل من الواجبات هو النّطق بالشّهادتين أو الإسلام إنّما أرادوا الواجبات الظّاهرة، وكما هو معلوم فإنّ الواجبات الباطنة تجب قبل الواجبات الظّاهرة، [ قال يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك. قال: قل آمنت بالله ثمّ استقم ]، { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * } ، { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً* } فلا يمكن أن نقول إذاً إنّ الواجب الأوّل هو الإسلام أو النّطق بالشّهادتين، فهناك واجبٌ قبل ذلك.
الّذي قال: أوّل واجبٍ على المكّلف هو الشّكّ هو زعيم المعتزلة أبو هاشم الجبّائيّ وقد رأى هو ومن ورائه طائفةٌ كبيرةٌ من المعتزلة أنّ الشّكّ هو الطّريق الموصلة إلى اليقين، فلا يقين بغير شكّ، كما في قصّة إبراهيم عليه السّلام حيث شكّ وتردّد حتّى أيقن وتثبّت، كما قال الله سبحانه: { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّآلِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * } ويمكن أن يكون الشّكّ موصلاً إلى اليقين، ولكنّ هذه ليست قاعدةً ثابتة، فهو ليس شرطاً لازماً ولا شرطاً كافياً، أي إنّ كثيرين يصلون إلى اليقين دون أن يمرّوا بطريق الشّكّ، بل إنّهم يبدؤون موقنين ويبدؤون متثبّتين، وليس مثال إبراهيم عليه السّلام مغايراً لهذا الّذي نقول، فإبراهيم موقنٌ من أصله، وليس هذا الّذي قاله شكّاً إنّما قال ذلك إظهاراً لربوبيّة الله أمام قومه، وأمّا هو فحاشى له أن يظنّ أنّ الله هو القمر أو أنّ الله هو الشّمس أو أنّ الله هو نجمٌ غابرٌ في السّماء، إنّما قال ذلك إظهاراً لسخف آرائهم عندما عبدوا أعراضاً أو عبدوا أجساماً حادثةً يطرأ عليها الحدوث بينما كانت عدماً قبل أن توجد وتعود عدماً بعد أن وجدت، فإبراهيم عليه السّلام موقنٌ دون أن يشّكّ، وهكذا عندما قال: { أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى } فلم يكن شاكّاً عليه السّلام، بل كان موقناً وأراد أن يزداد يقيناً، وسبب هذا السّؤال الّذي سأله: أنّه رأى حوتاً ميتْاً ملقىً نصفه على اليابسة وباقياً نصفه في البحر، وقد تكاثرت سباع اليابسة وبهائمها على النّصف الملقى على اليابسة يأكلونه، وتكاثرت أسماك البحر وحيتانه على النّصف الّذي في البحر يأكلونه، فاستغرب هذا المشهد، كلّ جزءٍ منه صار لقمةً في بطن بهيمةٍ أو سمكةٍ، فكيف تجمع هذه الأجزاء كلّها ويعود هذا الميْت حيّاً، عندها: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى } رأيت مشهد يستوجب أن أرى البرهان { أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } إذاً ليس بالضّرورة أنّ كلّ يقينٍ يسبقه شكّ، وبالمقابل ليس بالضّرورة كلّ شكّ يعقبه يقين؛ فكثيرون ابتدءوا بالشّكّ وازدادوا شكّاً ووصلوا بعد الشّكّ إلى الكفر، إذاً في حالاتٍ قليلةٍ نجد الشّكّ يعقبه اليقين…
والحقيقة أنّ المعتزلة وعلى رأسهم أبو هاشمٍ الجبّائيّ لم يقولوا هذا القول استناداً لنصّ شرعيّ، لم يقولوا هذا القول أخذاً بإجماعٍ أجمعت عليه الأمّة إنّما قالوا ذلك القول بمحض اجتهادٍ عقليّ، ومعلومٌ أنّ العقلانيّين عقلانيّة مجرّدةً عن الشّرع يجعلون الشّكّ أساس المعرفة، والمعتزلة كانوا يجسّدون هذا المذهب قديماً وظهر في الحديث فلاسفة أوربّيّون تبنّوا هذا المبدأ من مثل ( رينيه ديكارت ) صاحب نظريّة ( الشّكّ )، ومن مثل ( بيكون ) الفرنسيّ كذلك الَّذَيْنِ تبنّيا هذه المسألة مسألة أنّ الشّكّ هو الطّريق المثلى للمعرفة، إذاً هذا القول الّذي قال به الجبّائيّ قولٌ لا يستند إلى أصلٍ شرعيّ.
وأمّا أقوال أهل السّنّة فإنّها تدور حول ثلاثة احتمالاتٍ للواجب الأوّل على المكلّف: المعرفة، النّظر، القصد إلى النّظر.
المعرفة: ويراد بها معرفة الله تعالى، والله لا تُعرف ذاته إنّما يراد بذلك معرفة صفاته، وقد رجّح هذا القول اللّقّانيّ في ( جوهرة التّوحيد ) فقال:
واجزم بأنّ أوّلاً ممّا يجــبْ * معرفةٌ وفيه خلـفٌ منتصـبْ
ورجّح المقّريّ شهاب الدّين أبو العبّاس في منظومته ( إضاءة الدّجنّة في عقائد أهل السّنّة ) أنّ أوّل واجبٍ على المكلّف هو: النّظر: ويُقصد بالنّظر التّفكّر والاعتبار بقصد الوصول إلى المعرفة.
وقال آخرون: أوّل واجبٍ هو القصد إلى النّظر، بحيث قد يقصد المرء إلى النّظر ولا يستطيع، ولا يتمّ له النّظر، فيكون قد قام بالواجب، قصد، وذلك من باب [ إنّما الأعمال بالنّيات ] فإذا نوى وقصد أن ينظر أقام الواجب الأوّل، وفي ذلك يقول المقّريّ:
فبــانَ أنَّ النّظـرَ الموصـّلا * أوّلُ واجـبٍ كمـا قـدْ أُصِّـلا
( فبــانَ أنَّ النّظـرَ الموصـّلا ) أي الموصّل للمعرفة (* أوّلُ واجـبٍ كمـا قـدْ أُصِّـلا ) فتبنّى إذاً أنّ النّظر هو الواجب الأوّل.
ومعلومٌ أنّ النّظر والمعرفة بمثابة الوسيلة والغاية؛ فالنّظر وسيلةٌ والمعرفة مقصد، فلذلك كان النّظر واجباً في أحيانٍ كثيرة، لأنّه لا يتمّ الوصول إلى المعرفة إلاّ بالنّظر، وما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب، ولكن قد تتمّ معرفةٌ بغير نظرٍ فيكون النّظر بناءً عليه غير واجب، عندما يقذف الله تعالى معرفته في قلوب عباده العارفين قذفاً ويُلهمهم معرفته إلهاماً فيسقط عنهم فرض النّظر لتحقّق فرض المعرفة بدون وسيلة ( وصلوا إلى الغاية بدون وسيلة )، لذلك فإنّ فرض المعرفة هو الفرض الأوّل المقصود بذاته، فإن كانت هذه المعرفة لا تتمّ إلاّ بنظرٍ كان النّظر فرضاً قبل فرض المعرفة، إذاً هذه هي الخلاصة الّتي نجمع فيها بين آراء العلماء المختلفة حول أوّل الواجبات، يقول المقّريّ في ذلك:
أوّلُ واجـبٍ علـى المكـلّـفِ * إعمالـهُ للنّظــرِ المُؤَلَّــفِ
كـيْ يستفيدَ منْ هـدى الدّليـلِ * معرفــةَ المصّـورِ الجليــلِ
وتطمئـنَّ نفســهُ لمّـا سلـمْ * منْ ورطـةِ الجهلِ وللحقِ علـمْ
إذاً رجّح أوّليّة النّظر، ثمّ قال بعد ذلك بأبيات:
فبــانَ أنَّ النّظـرَ الموصِّـلا * أوّلُ واجـبٍ كمـا قـدْ أُصِّـلا
وقدْ عزوا ذا للإمـامِ الأشعريْ * وهوَ عنِ الإشكالِ والضّعفِ عريْ
وقيـلَ بـلْ قصـدٌ إليـهِ أوّلُ * فـرضٍ وفرقـةٌ عليـهِ عوَّلـوا
وقيـلَ بـلْ معرفـةُ الخـلاّقِ * أوّلُ واجــب ٍعلـى الإطـلاقِ
وغيـرُ واحـدٍ نمـاهُ أيضـا * للأشعـريِّ المستمــدِّ فيضــا
وليـسَ ذا مخالفـاً مـا قبلـهْ * إذْ هـيَ قصـدٌ وسواها وصلـهْ
طبعاً هذا كلامٌ واضحٌ بيّن، ولكن يحتاج إلى زيادةٍ تجيء، ففي هذه الأبيات بيّن الآراء الثّلاثة المحتملة للواجب الأوّل على المكلّف، ( فبــانَ ) إذاً استدلّ هو واستنبط أنّ النّظر هو الواجب الأوّل، بخلاف اللّقّانيّ الّذي رأى أنّ المعرفة هي الواجب الأوّل
فبــانَ أنَّ النّظـرَ الموصـّلا * أوّلُ واجـبٍ كمـا قـدْ أُصِّـلا
وقدْ عزوا ذا للإمـامِ الأشعريْ * وهوَ عنِ الإشكالِ والضّعفِ عريْ
بالمقابل اللّقّانيّ قال:
واجزمْ بأنَّ أوّلاً ممّا يجــبْ * معرفةٌ وفيهِ خلـفٌ منتصـبْ
قال: ( وقيـلَ بـلْ قصـدٌ إليـهِ أوّلُ * فـرضٍ ) القصد إلى النّظر هو الفرض قبل النّظر ذاته
وقيـلَ بـلْ قصـدٌ إليـهِ أوّلُ * فـرضٍ وفرقـةٌ عليـهِ عوّلـوا
وقيـلَ بـلْ معرفـةُ الخـلاّقِ * أوّلُ واجــب ٍعلـى الإطـلاقِ
وهذا ما رجّحه آخرون يُرجّح عليه المقّريّ في ( إضاءة الدُّجنّة ) قال:
وقيـلَ بـلْ معرفـةُ الخـلاّقِ * أوّلُ واجــب ٍعلـى الإطـلاقِ
وغيرُ واحدٍ نماهُ أيضـا ( أي نسبه كذلك ) للأشعريِّ المستمدِّ فيضــا
كما نسبوا القول الأوّل للأشعري نسبوا هذا للأشعري، وبين هذين تناقض، يحلّ التّناقض المقّريّ فيقول:
وليـسَ ذا مخالفـاً مـا قبلـهْ * إذْ هـيَ قصـدٌ وسواها وصلـهْ
أي المعرفة قصد، والنّظر وصلةٌ أي وسيلةٌ للوصول إلى ذلك القصد.
فبان أنّ الواجبين متلازمان، لأنّ المعرفة غاية والنّظر وسيلةٌ إلى تلك الغاية، فإذا كانت المعرفة أوجب من النّظر، ولكنّ النّظر أسبق على المعرفة، لأنّه وسيلةٌ في الغالب إلى الوصول إلى المعرفة، النّظر والّذي سنتكلّم عنه اليوم قبل الوصول إلى الكلام عن المعرفة في درسٍ قادمٍ بإذن الله تعالى.
النّظر يطلق في المعنى اللّغوي على معنيين: على الإبصار وعلى الفكر، فهناك نظرٌ حسّيّ ونظرٌ معنويّ، فالنّظر الحسّيّ مثاله قولنا: ( نظرت في الشّمس ـ أو إلى الشّمس ـ إلى أن غابت ) أي: أبصرتها إبصاراً إراديّاً مستمرّاً مستغرقاً وقتاً ومدّةً زمنيّةً، وهناك فارق بين البصر وبين النّظر؛ فالبصر فعلٌ غير إراديٍّ والنّظر فعلٌ إراديّ، البصر فعلٌ لا يستغرق وقتا والنّظر فعلٌ يستغرق وقتاً، البصر فعلٌ يحدث بمجرّد فتح العينين وأمّا النّظر فهو يحتاج إلى التّركيز؛ فلذلك سُمّي النّظر هنا بصراً على سبيل المجاز والتّقريب، إذاً ( نظرت في الشّمس إلى أن غابت ) هذا البصر، ومثال النّظر المعنويّ قولنا: ( نظر القاضي في القضيّة ساعة، ثمّ أصدر فيها حكمه ) وليس معنى النّظر هنا أنّه أبصرها ولكن تفكّر فيها وفي حيثيّاتها ومداخلاتها، ثمّ وصل إلى نتيجة، إذاً النّظر يُطلق على الإبصار ويُطلق على الفكر.
وأمّا في الاصطلاح فإنّ النّظر: هو تأليف أمورٍ معلومةٍ للوصول إلى حكمٍ مجهولٍ من خلالها…
النّظر الّذي يُطالب به المسلم هو النّظر في ملكوت السّماوات والأرض حتّى يصل إلى معرفة الله سبحانه وتعالى، وقد أمر الله تعالى بالنّظر في كتابه مرّاتٍ كثيرة، ولكن لمّا دقّقت في هذه المرّات رأيت معظمها أمراً بالنّظر في آثار التّاريخ { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } ، { قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } وأمّا النّظر في خلق الله في السّماوات والأرض فلقد رأيته من المئات من المرّات الّتي ذكر فيه النّظر في القرآن الكريم، رأيت النّظر في خلق الله تعالى، في الخلق الطّبيعيّ، في الفلك والأجرام السّماويّة، في الإنسان ودقائق خلقه ومراحله، في الأرض وتفاصيل ما فيها، رأيت ذلك النّظر قد حضّ الله تعالى عليه في القرآن الكريم في أحد عشر موضعاً في موضعٍ منها ذُكر النّظر ثلاث مرّات، فذكرت كلمة ( النّظر ) في هذا السّياق ثلاث عشرة مرّة، طبعاً الموضع الّذي تكرّر فيه: قصّة العُزَير { فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً } ففي أحد عشر موضعاً إذاً حضّ الله على النّظر في ملكوت السّماوات والأرض، فمن ذلك قوله { انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ } ومن ذلك قوله { قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ * } ومن ذلك قوله { أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ * } ومن ذلك قوله { فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ * إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ * يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * } .
إذاً إحدى عشرة مرّة أُمر بها في النّظر في ملكوت السّماوات والأرض، وفي غير هذه المرّات كان الكلام عن ملكوت السّماوات والأرض كثيراً وإن لم ترد كلمة ( النّظر ) خصوصاً، كقول الله تعالى: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الألْبَابِ } ولقد روى الإمام أحمد بن حنبل في مسنده: [ عن عبد الله بن عبّاسٍ رضي الله عنهما أنّه بات عند النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام ] أي عند خالته أمِّ المؤمنين السّيّدة ميمونة رضي الله عنها [ فقام النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام في اللّيل ثمّ خرج فصار ينظر في السّماء ويتأمّل فيها ويقول: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الألْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ * } قال: ثمّ رجع إلى البيت فتوضّأ واستاك وصلّى، ثمّ اضّجع، ثمّ قام فخرج فنظر إلى السّماء وقرأ الآيات، ثمّ رجع فتوضّأ واستاك وصلّى، ثمّ نام ] فعل ذلك ثلاث مرار، وهو يقرأ الآية ويطبّقها عندما يتأمّل في خلق السّماء، ورُوِي عن محمّدٍ الباقر: ( أنّه وضع يده في الميضأة يريد أن يتوضّأ، ثمّ نظر إلى السّماء ونسي نفسه فلم يشعر بمرور الوقت إلاّ بعد أن أصبح الصّباح ) يده في الماء وهو يريد أن يتوضّأ، فلمّا نظر إلى السّماء وأسره خلقها نسي نفسه ونسي ما كان يريد ويده لا تزال في هذا الماء، إذاً النّظر أُمر به في آياتٍ كثيرةٍ من كتاب الله وإن لم يُنصّ على كلمة النّظر في المرّات كلّها { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } ، { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ * } … إلى آخر ذلك وما أكثره في القرآن الكريم.
فالنّظر إلى الكون يوصل إلى معرفة المكوّن، وإلاّ فإنّ ذات الله تعالى لا تُعرف بذاتها، فلذلك كان أوّل فرضٍ النّظر إلى الكون، كما قال القاضي أبو بكر ابن الطّيب الباقلاّنيّ إمام المتكلّمين وسيف المسلمين على أعداء الإسلام، كما قال في كتابه ( الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به ) قال: ( وأن يعلم أنّ أوّل ما فرض الله عزّ وجلّ على جميع العباد: النّظر في آياته، والاعتبار بمقدوراته، والاستدلال عليه بآثار قدرته وشواهد ربوبيّته )… وهو يعدّ الأمور الّتي يجب على كلّ مكلّفٍ أن يعلمها، قال: ( وأن يعلم أنّ أوّل ما فرض الله عزّ وجلّ على جميع العباد: النّظر في آياته، والاعتبار بمقدوراته، والاستدلال عليه بآثار قدرته وشواهد ربوبيّته لأنّ الله تعالى غير معلومٍ باضطرار ولا مشاهدٍ بالحواس، وإنّما يُعلمُ وجوده وكونه بما ظهر من أفعاله بالأدلّة القاهرة والبراهين الباهرة ) إذاً النّظر في آياته، والاعتبار بمقدوراته، والاستدلال عليه بآثار قدرته وشواهد ربوبيّته هذا أوّل ما يجب على المسلم، فمن خلال هذا يصل إلى الله سبحانه ( تفكّروا في الخلق ولا تفكّروا في الخالق فأنّ الخالق لا تحيط به الفكرة ) هذا حديثٌ لا يصحّ نقله إلى رسول الله عليه الصّلاة والسّلام، ولكنّ معناه صحيح: تفكّروا في الخلق ولا تفكّروا في الخالق، لذلك لمّا تكلّم الله تعالى عن ذاته أوجز، ولمّا تكلّم عن خلقه أسهب، لمّا تكلّم عن ذاته أجمل، ولمّا تكلّم عن كونه فصّل، فقال سبحانه: { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * } ثمّ قال: { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * } قارن بين الآيتين تعلم العبرة في تتابعهما، حيث إذا تكلّم المرء عن الله فينبغي أن يكون إنساناً متوقّفاً عند النّصوص، وألا ينظر وألا يفكّر في ذاته سبحانه، لأنّ ذات الله تعالى فوق تفكيرنا، كما قال الطّحاويّ في عقيدته الّتي نقلها عن إمام المسلمين الإمام أبي حنيفة النّعمان وتلميذيه: محمّد بن الحسن الشّيبانيّ، والحسن بن زياد، قال في وصف الله تعالى: ( لا تبلغه الأوهام، ولا تدركه الأفهام، ولا تشبهه الأنام )، ولمّا وصفه سيّدنا عليّ عليه رضوان الله تعالى عندما سؤل عنه: ( بمَ عرفت ربّك؟ ) قال: ( عرفته بما عرّفني به نفسه ) كيف؟ كيف عرفته؟ قال: ( لا يدرك بالحواسّ، ولا يقاس بالقياس، ولا يُشبّه بالنّاس )… فالوصول إلى معرفة ذات الله تعالى أمرٌ مستحيلٌ متعذّرٌ يعجز عنه العارفون فضلاً عن الجاهلين، ويعجز عنه الواصلون فضلاً عن السّائرين، لذلك لنا شُغُلٌ في النّظر في الخلق عن النّظر في ذات الخالق، فالخلق هو الّذي يوصلنا إلى معرفة صفات الخالق.
الأفعال توصل إلى الصّفات، وأمّا الذّات فإنّها فوق كلّ تفكيرٍ وكلّ وهمٍ وفهم، ننظر إلى الأفعال، ونفهم الصّفات، ونجهل الذّات، هكذا نتعامل، ننظر إلى الأفعال… ونعاينها، ونفهم صفاته سبحانه، وأمّا ذاته فنجهلها ولا نستطيع أن نحيط بها كنها، لذلك قلنا النّظر هو أوّل الواجبات، كما قال المقّريّ:
أوّلُ واجـبٍ علـى المكـلّـفِ * إعمالـهُ للنّظــرِ المُؤَلَّــفِ
كـي يستفيدَ منْ هـدى الدّليـلِ * معرفــةُ المصـوّرِ الجليــلِ
وتطمئـنَّ نفســهُ لمّـا سلـمْ * من ورطـةِ الجهلِ وللحقِ علـمْ
فجعله المقّري واجباً أوّل، وجعله اللّقّانيّ واجباً ثانياً عندما قال:
واجزمْ بأنَّ أوّلاً ممّا يجــبْ * معرفةٌ وفيهِ خلـفٌ منتصـبْ
ثمّ قال:
فانظرْ إلى نفسكَ............. * ..............................
جعل النّظر واجباً من حيث الرّتبة بعد المعرفة، ولكن على العموم فهو من حيث التّرتيب قبل المعرفة، لأنّ النّظر وسيلة ووصلة، وأمّا المعرفة فهي قصد، كما قال:
............................... * إذ هـي قصـدٌ وسواها وصلـهْ


فانظرْ إلى نفسكَ ثـمَّ انتقـلِ * للعالمِ العلـويِّ ثـمَّ السّفلـيْ
تجدْ بهِ صنعاً بديـعَ الحكـمِ * لكنْ بـهِ قـامَ دليـلُ العـدمِ
وكلُّ ما جـازَ عليـهِ العـدمُ * عليهِ قطعـاً يستحيـلُ القـدمُ
النّظر سيكون إلى الكون، والكون ينقسم على حسب نظرنا إلى: أنفسنا، وما حولنا، إلى فرش العالم، فعلينا أن ننظر في العالم ما وصلنا إليه منه، نبدأ بأنفسنا، ثمّ ننظر إلى العالم السّفليّ والعالم العلويّ، وكلّها توصل إلى الله ولكن درجاتها متفاوتة كما قال الله سبحانه: { لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * } عُلِم أنّ السّماوات والأرض إحكام الخلق فيها أعظم من خلق الإنسان، وبما أنّه قدّم السّماوات على الأرض عُلم أنّ خلق السّماوات أعلى رتبةً من خلق الأرض، فإذا أردنا أن نرتّب العلوم على حسْب موضوعاتها فإنّنا نرى أنّ علم الجيولوجيا يصير أعلى رتبةً من علم الطّب، وأنّ علم الفلك يصير أعلى رتبةً من علم الجيولوجيا، لأنّ هذا تتعلّق به السّماوات، والثّاني تتعلّق به الأرض، والثّالث تتعلّق به الأجساد البشريّة، والله تعالى يقول: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * }، { وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ * } .
هذا النّظر والاعتبار هو الواجب المفروض على المسلم، قال فيه المقّريّ:
وجـاءَ فيْ القـرآنِ والأخبـارِ * حـثٌّ علـىْ الفكـرِ والاعتبـارِ
وهـوَ علـى وجوبـهِ قـدْ دلاَّ * مـعَ كونـهِ بالقصـدِ مـا استقلاَّ
فالنّظر والفكر واجبان إذاً { قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } هذا أمر، والأمر إذا لم يصرفه صارفٌ عن الوجوب إلى السّنّيّة بقي واجباً، بقي يُفيد الوجوب، فهنا دليلٌ على أنّ النّظر واجب
وجـاءَ فيْ القـرآنِ والأخبـارِ * حـثٌّ علـىْ الفكـرِ والاعتبـارِ
وهـوَ علـى وجوبـهِ قـدْ دلاَّ * مـعَ كونـهِ بالقصـدِ مـا استقلاَّ
فقـرأْ وفي أنفسكـمْ معْ أفـلا * تظفـرْ برشـدٍ نـورهُ مـا أفـلا
هو يقصد الآية الكريمة: { وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ }، يقول:
فقرأْ وفي أنفسكمْ معْ أفلا(يعني{أَفَلا تُبْصِرُونَ})تظفرْ برشدٍ نورهُ ما أفلا
فجعل هذه الآية دليلاً على وجوب النّظر { وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ } فبدايةً ينظر المرء إلى نفسه، وإلى ما فيه من خلقٍ محكم، نعم خلق السّماوات أكبر من خلق الإنسان، ولكن الإنسان خلاصة السّماوات والأرض، خلاصة الكون، فما في الكون شيءٌ إلاّ وفي الإنسان رمزٌ له، ما في الإنسان خلقٌ بديعٌ، وصنعٌ جميلٌ إلاّ وفيه ما يشبهه بشكلٍ مُصغّرٍ داخل الإنسان، فهذا الإنسان هو رمزٌ مصغّرٌ للكون كلّه، جعل الله تعالى فيه أشياء تشبه ما في السّماوات وما في الأرض وما في البهائم وما في الملائكة وما في الشّياطين، فجعل الكائنات كلّها مكثّفةً داخل هذا الكائن البشري، كما قال القائل:
أتحسبُ أنّكَ جرمٌ صغيرٌ * وفيكَ انطوى العالمُ الأكبرُ؟!
( فانظرْ إلى نفسكَ ) إلى ماذا تنظر؟ على حسْب علمك وعلى حسْب اتّساع مداركك ينبغي أن تنظر، فإن كنت إنساناً عاديّاً غير متبحّرٍ في علم التّشريح وفي علم الطّب وفي فيزيولوجيا الأعضاء وفي مورفولوجيا هذه الأعضاء ووظائفها. فإنّك غير مطالبٍ بأن تُدقّق في تفاصيل وظائف جسمك، ولكن بمجرّد أن تنظر نظراً سطحيّاً ستكتشف أموراً عجيبة، ابدأ بهذا القلب الّذي هو سرّ حياتك الظّاهر، هذا القلب ينبض في كلّ دقيقةٍ بمعدّل ثمانين نبضة، ثمانين نبضة في الدّقيقة!، بمعدّل وسطي مئة ألف نبضة في اليوم، فإذا عشت ستّين عاماً فإنّ قلبك ينبض أعداداً هائلة! مئة ألف نبضة في اليوم دون توقّف، أيُّ جهازٍ هذا يقوى على أن يعمل ستّين أو سبعين عاماً دون أن تفصل هذا الجهاز ( تفصل شريطه عن المنبع الكهربائي ) ودون أن توقفه وتريحه بعض الشّيء؟!! القلب يعمل مثل هذا العمل، لأنّ الله برمجه بحيث يرتاح في كلّ نبضةٍ بقدر ما يعمل في هذه النّبضة، فهو لا يحتاج إلى أن يرتاح عشر ساعات بعد أن يعمل « 14 » ساعة مثلاً، لأنّه في كلّ نبضةٍ يرتاح، النّبضة تستغرق معدّلاً وسطيّاً عند البشر وعند الإنسان الطّبيعي فترةً تقدّر بـ 86% من الثّانية، تنقسم إلى طورين: طور انقباضٍ وطور انبساط، طور الانبساط: 43% من الثّانية، وطور الانقباض: 43% من الثّانية، فهو إذاً يعمل ويرتاح يعمل ويرتاح يعمل ويرتاح، في كلّ نبضةٍ يعمل ويرتاح، فمن الّذي نظّم عمله بهذه الدّقّة المتناهية بحيث لا يحتاج إلى الرّاحة بعد عمل سنة مثلاً؟! بل إنّه يعمل ستّين وسبعين ومئة عام! بل إنّه عمل عند سيّدنا آدم ألف عامٍ!! وعمل عند سيّدنا نوحٍ أكثر من ذلك دون توقّف ودون أن يتعب!! لأنّه يتعب فيرتاح، ثمّ يتعب فيرتاح بشكلٍ مستمرّ.
انظر إلى تنظيم العمل في دخول الدّم وخروجه إلى هذا القلب عن طريق البطينين والأُذينين الأيمنين والأيسرين، كيف يدخل الدّم وكيف يخرج، وكيف يدور دورةً صغرى إلى الرّئتين ينقّى بها من ثاني أُكسيد الكربون، ذلك الغاز السّام، وكيف تجرى بعض عمليّات الأكسجة ثمّ يعود الدّم نظيفاً مطهّراً جاهزاً لمعاودة السّيرورة نحو أنحاء الجسم بالدّورة الكبرى، فتجري عمليّاتٌ أخرى يتّسخ من خلالها ويحمل فضلات الجسم ثمّ يعود إلى القلب مرّةً أخرى.
انظر إلى الرّئتين اللّتين تعملان في الدّقيقة بمعدّل وسطي ست عشرة مرّة، ست عشرة مرّةً من شهيقٍ وزفير، يعني تقريباً في اليوم « 23 » ألف مرّة، ماذا يحدث لو انقطعت عنك هذه العمليّة خمس دقائق لا أكثر؟ وأنت تعيش ستّين أو سبعين عاماً أو أقلّ أو أكثر، لو خمس دقائق من هذه الأعوام الطّويلة توقّف فيها العمل في الجهاز التّنفسيّ انتهت الحياة، قضي الأمر، رفعت الأقلام وجفّت الصّحف، فكيف إذاً تعمل هاتان الرّئتان دون توقّف؟ من الّذي برمج عملهما بهذه الدّقّة؟
انظر إلى أدقّ دقائق جسمك، انظر إلى الخليّة الجسميّة وإلى الخليّة الجنسيّة، وفيك خليّةٌ جسميّةٌ تتكرّر في كلّ أنسجة جسمك من الجلد إلى العضلات إلى العظام، من العينين إلى الأذنين إلى الأظافر، فيك خلايا جسميّة متشابهة التّركيب، من ستّة وأربعين صبغي، وهذه الخلايا الجسميّة كلّها تتطابق في التّركيب مع البويضة الملقّحة الّتي تشكّلت من نطفة والدك وبويضة والدتك، فهي مكرّرةٌ من تلك البويضة الملقّحة، وفيك خليّةٌ جنسيّةٌ تعدل النّصف من الخليّة الجسميّة من حيث عدد الصّبغيّات، ثلاثةً وعشرين صبغيّاًً تحوي، وهذه الخلايا ليست نسخةً من الخليّة الجسميّة وذلك لأنّها ستنتج إنساناً جديداً ينبغي أن يختلف عنك بالصّفات، وإلاّ لو كانت الخلايا الجسميّة والجنسيّة كلّها متطابقة لرأيت البشر كلّهم متشابهين، كلّ واحد يُشبه أباه وابنه يُشبهُهُ وحفيده يشبُهُ ابنه، إذاً رأيت البّشر كلّهم نسخةً واحدة مثل لُعب « طالعة » من معمل، لا تميّز واحداً عن آخر، لذلك اختلفت الصّبغيّات في خلاياك الجنسيّة عن الصّبغيّات في خلاياك الجسميّة، هذه النّطفة الّتي تحوي ثلاثة وعشرين صبغيّاً ستلتقي مع البويضة الّتي تحوي ثلاثة وعشرين صبغيّاً ويشكّلان معاً مشروع إنسان ( بُيَيْضة ملقّحة ) من ستّةٍ وأربعين صبغيّاً فيها شيفرةٌ وراثيّة تمثّل كلّ صفاتك الوراثيّة الّتي ستكون لك بعد أن تولد، وبعد أن تكبر، وبد أن تبلغ، وبعد أن تنضج، فيها لون عينيك ولون جلدك ولون شعرك وطولك وعرضك، وشكل أذنيك، وكيف هل تكون هذه ملتحمةً أم لا تكون، وكم شعرةً في رأسك وكم شعرةً في جفنيك، وسوف تحدّد ما هي الأمراض الوراثيّة الّتي ستصاب بها وفي أي عمرٍ ستصاب بها، هل ستصاب بداء السّكريّ، وأن كنت ستصاب فمتى، وهل ستصاب بكذا وهل ستصاب بكذا، فيها مجلّدات ضخمة جدّاً مجموعة في بويضةٍ ملقّحةٍ أصغر من رأس الدُّبُوس ( أصغر من رأس الدُّبُوس بكثير ) إذاً الله تعالى سبق علماء الحاسوب وعلماء التّكثيف المعلوماتيّ الّذين استطاعوا أن يجمعوا كمّاً هائلاً من المعلومات في قرصٍ صغيرٍ يمكن أن يلخّص مكتبةً كاملة، « إي إيشّو قرص؟ عم نقول لكم » بويضة ملقّحة أصغر من رأس الدُّبُوس جمعت آلاف المجلّدات، جمعت صفاتٍ وراثيّةً يحتاج تفصيلها فعلاً إلى آلاف المجلّدات، من الّذي خلق ذلك وصنّعه وبرمجه؟ الوظائف الّتي يقوم بها الجسم البشريّ فكّروا مرّةً أن يصنعوا مصانع تقوم بها « جسم واحد هه » فرأوا أنّهم يحتاجون إلى مساحة أرضٍ تبلغ مساحة مدينة باريس، ليقوموا بالوظائف الّتي يقوم بها الجسم الإنساني، « ومو متلها تماماً تقليد، بدو يكون في نقص أكيد » وهم يريدون أن يقلّدوا الشّيء الّذي علموه وما أكثر ما جهلوا إلى جوار ما علموا… وهذا الّذي علموه لن يستطيعوا أن يقلّدوه بدقّةٍ، بل سيكون فاشلاً إلى جوار ما خلق الله سبحانه وتعالى.
انظر إلى العين على سبيل المثال، إلى هذا العضو الّذي يمثّل نعمةً عُظمى من نعم الله ( إذا أردت أن تعرف نعمة الله عليك فأغمض عينيك ) جرّب أن تجلس في مجتمع بشرٍ « مو لحالك، لحالك ما بتحسّ بالقيمة » اجلس في مجتمع بشر وأغمض عينيك وقرّر أن لا تفتحهما لمدّة ربع ساعة، « واحد بيجي ليجن، بيطق عقلوا، عب يسمع واحد عب يحكي وبدّو يشوف اللّي عب يحكي إيش منظره شلون عب يحكي إيشّو شكل وجهه، لأنّه العين مغرفة الكلام متل ما بيقولوا، وبالتّالي إذا عينه ما عب تشوف » يشعر بالنّقص، هذه النّعمة العظمى من نعم الله سبحانه شيءٌ عجيب، العُصيّ والمخاريط الّتي تبلغ في الملايين داخل هذا العين هي الّتي تجعلك قادراً على الإبصار وتمييز الألوان ومعرفة الجسم القريب من الجسم البعيد، ثمّ وجود عينين تجريان عمليّة المطابقة، هذا هو الّذي يساعدك على تمييز الأبعاد ( البعد الثّالث للأشياء ) وإلاّ لو كنت تنظر بعينٍ واحدةٍ نظراً مسطّحاً لما استطعت أن تميّز العمق، لما استطعت أن تميّز الغمق، فلذلك خلق لك الله سبحانه وتعالى عينين تُجريان عمليّة للجمع بين الخيالين للصّورة الواحدة (للجسم الواحد، صورتين للجسم الواحد) تستطيع من خلال ذلك أن تعرف بُعْدَه، وأن تراه برؤية فراغيّةٍ لا برؤيةٍ مستوية، ثمّ عندما يقع الخيال… عندما يقع الخيال أين يقع؟ يقع في نقطةٍ معيّنةٍ بالملّيمترات بل أدقّ من ذلك، لأنّها لو وقعت أمام ذلك لأُصبت بمرض ( الحسر )، ولو وقعت وراء ذلك لأُصبت بمرض (الطّمس) قصر النّظر وبعد النّظر أو مدّ النّظر كلاهما مرض، وهذا حالة قليلة جدّاً في النّاس، والحالة العامّة يرون رؤيةً سليمة، لأنّ الخيال يقع في النّقطة المناسبة بالملّيمترات وأدقّ من الملّيمترات، يقع الخيال على النّقطة الصّفراء ومن هنا فأنت ترى، ولو وقع الخيال على النّقطة العمياء نقطة خروج العصب البصري من العين متّجهاً باتّجاه الدّماغ لما رأيت، يقع الخيال في العين منقلباً، ولكنّك تراه صحيحاً لأنّه في الدّماغ يصحّح، وإلاّ لو لم يصحّح لرأيت رؤوس البشر إلى أسفل وأرجلهم إلى أعلى، ولرأيت السّماء أرضاً والأرض سماء، ولرأيت الجاذبيّة الّتي اكتشفها نيوتن لرأيتها جاذبيّةً سماويّةً لا جاذبيّةً أرضيّةً، لرأيت الأجسام تنجذب باتّجاه الأعلى، فلذلك الخيال يصحّح في الدّماغ، فكيف إذاً هذه البرمجة وهذه الدّقّة؟ عندما تقول هذه الصّورة الّتي التقطتها هذه « الكاميرا » آلة التّصوير مطابقة للواقع ماذا يعني ذلك؟ يعني ذلك أنّ دقّة هذه « الكاميرا » اقتربت من دقّة العين، وأمّا العين فإنّ دقّتها دقّةٌ كاملة بحيث إنّها تصوّر لك الواقع دقيقاً، حالات «التّغبيش قليلة» حالات عمى الألوان قليلة أيضاً، والحالة العامّة رؤيةٌ دقيقةٌ ترى فيها كلّ شيءٍ على حقيقته.
انظر إلى الأذن وما فيها من « ميكروفونات » وما فيها من أجهزة صوتيّة معقّدة تجعلك تسمع الصّوت سماعاً دقيقاً تميّز فيه شدّة الصّوت، تميّز فيه رخامة الصّوت، تميّز فيه علوّ الصّوت وانخفاضه، فأنت تسمع ما بين « 16 » هرتز (أي ذبذبة في الثّانية) وما بين عشرين ألف هرتز، وأقلّ من ذلك لا تسمع، وأكثر من ذلك لا تسمع، لأنّ هذا يتناسب مع ما تحتاج من الأصوات، وإلاّ لو سمعت أقلّ أو أكثر لربّما جُننت، ولربّما ذهب عقلك « إذا الله بدّو يسمعك إيش عب يحكي النّمل وإيش يحكوا الحيوانات مع بعضون، بدّو يسمعك الأمواج فوق الصّوتيّة وتحت الصّوتيّة إي إيش بدّك تتحمّل إي نحن هالأ عب نسمع الأمواج الصّوتيّة » ودماغنا لا يحتمل هذا الضّجيج فكيف لو سمعنا أكثر من ذلك؟.
عندما تسمع الصّوت يدخل الصّوت من خلال هذه الأذن، والأذن كما ترى تشبه ( الرّادار ) تشبه المُستقبِل « يعني الله تعالى ما جعل لنا الأذن على قدّ الفتحة لأ، جعل في سطح واسع » وفيه تلافيف وتجاعيد كثيرة، وذلك لتجميع الأمواج الصّوتيّة بأكبر قدر ممكن، بمثابة مستقبلات، وهذه التّلافيف وظيفتها أخذ الأمواج الصّوتيّة الّتي تنتشر بشكلٍ كرويّ، أخذها من اتجاهاتٍ مختلفة، وإلاّ لو كانت الأذن مسطّحة لأخذت الأمواج الصّوتيّة من اتجاهٍ واحدٍ فقط، فجُعلت متلفّفةً متجعّدةً لتأخذ الأمواج الصّوتيّة من اتجاهات عدّة، ثمّ تُكثّف هذه الأمواج وتُدخلها إلى الأذن الوسطى، في الأذن الوسطى تُكثّف عن طريق « الميكرفونات » الثّلاثة، « في عنّا 3 ميكروفونات »: المطرقة والسّندان والرّكابي، وهذه « الميكروفونات » تضخّم الصوت بقدر عشرين مرّة، فتسمع الصّوت دقيقاً، لذلك إذا سمعت صوتاً من «ميكروفون» صناعي « بتقول هدا مشوّش، ليش؟ لأنّه عب تقارنه بالميكروفون اللّي عندك » عالي الدّقّة حسّاس جدّاً للأصوات، ينقل لك الصّوت بدقّةٍ عالية، فعندما قارنت به جهاز تكبيرٍ صناعياً قلت: هذا غير دقيق « هدا في معو تشويش، هدا في معو طنّة، لأنّه أنت بالحالة الطّبيعيّة عندك سمع » دقيق جدّاً صرت تقارن به وصرت تميّز الحسن من الأحسن، والسّيئ من الحسن.
تنظر إلى الجهاز العصبيّ الّذي في جسمك، والّذي ينقسم إلى جملةٍ عصبيّةٍ ودّيّةٍ وقرب ودّيّة، فيه جملةٌ عصبيّةٌ مركزيّة وأخرى محيطيّة، وتنظر كيف تقاسمت هذه المراكز العصبيّة الوظائف والأدوار، فلكلٍّ منها وظيفةٌ لا تصارعه فيها غيره، فتجد كيف أنّ منها مراكز اختصّت بالأفعال الإراديّة، وأخرى اختصّت بالأفعال الانعكاسيّة، تجد كيف أنّ المُخيخ والبصلة السّيسائيّة والنّخاع الشّوكي يغلب عليها الأفعال الانعكاسيّة، وكيف أنّ المخّ يغلب عليه الأفعال الإراديّة، تجد كيف أنّ المادّة الرّماديّة في ظاهر المخّ وظاهر المخيخ اختصّت بوظائف غير المادّة البيضاء في باطن المخّ والمخيخ، وكذلك بالعكس في النّخاع الشّوكي فإنّ المادّة البيضاء في الظّاهر اختصّت بوظائف غير المادّة الرّماديّة في الباطن، تنظر إلى هذه الأعصاب الّتي في الجسم والّتي إذا وصلت مع بعضها في جسم إنسان واحد، إذا وصلت هذه الأعصاب ببعضها فيمكن أن تصل إلى القمر « إي شلون ما عب صير؟ هال أعصاب متل إيش؟ متل شرطان الكهربا، عب توصل » بين ماذا وماذا؟ « عب توصل بين الدّماغ والأعضاء، يعني عب توصل » بين المركز الكهربائي وبين الأجهزة الّتي تستفيد من هذه الكهرباء، السّيّالة العصبيّة « متل الكهربا » وإن كانت سرعة انتقالها ليست كبيرةً جدّاً مثل سرعة الضّوء مثلاً، فتصوّر نطاقاً ضيّقاً وحيّزاً صغيراً هكذا فيه هذا القدر الكبير من الأشرطة الكهربائيّة، أسلاك وأسلاك متلاصقة « في بعضها، وشي داخل طالع في بعضه » شبكات كهربائيّة معقّدة داخل هذا الحيّز الصّغير « معقول ما يضربوا؟ معقول ما يحموا؟ وبعد ما يحموا إيش بدّو يصير؟ بدّا تلزّق وتسيخ الشّرطان ويلزقوا على بعضون، ويصير كونتاك، ويضرب آخر الشّي هدا الجسم، وناخدوا على المصلّح إيش بدنا نساوي فيه؟ بيقول والله هاد للكبّ لأنّه إذا بدنا انصلّحه بدنا نحطّ قد حقّه وأكتر، فليش ما عب صير هدا الجسم للكبّ؟ وليش ما عب تضرب الأسلاك الكهربائيّة اللّي أسمها الأعصاب؟ وليش ما عب يضرب المركز الكهربائي المنبع الكهربائي اللّي أسمه الدّماغ؟ ليش؟ إي قال: لأنّه اللّي خلقه واللّي صنعه سبحانه وتعالى في عنده كفالة، وبالتّالي الله سبحانه وتعالى ما بيخلّيه يتعطّل وبعدين بيصلّحو » فإذا عُطّل فذلك لغاياتٍ وحكم، فإنّ الله تعالى إذا أمرض الإنسان وانحرف بذلك نظامه الصّحيّ فذلك لإظهار سنّةٍ كونيّةٍ من ناحية ولإظهار القدرة الإلهيّة والعجز البشريّ من ناحية أخرى «لأنّه إذا كلّ شي بدو يمشي سيوي معناها كأنّي نحن بنحسّب حالنا نحن آلهة، لأنّه نحن ما عب صير فينا عطل طاول ما بيصير فينا خلل، لأ الله تعالى بيعطّلنا في بعض الأحيان من شان يقول لنا: شايفين هدا أنا اللّي بيصلّحكون وأنا اللّي بيعطّلكون وأنا بقدر بصلّحكون مرّة تانية» { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * } « وإلاّ لو كان ما بيمرض طاول ما بنتذكّر » بأنّ الله تعالى هو أمرضنا وهو القادر على أن يشفينا…
هذه الشّعيرات الدّمويّة الّتي توصل الدّم إلى كلّ نقطةٍ مهما بعُدت من الجسم، والّتي إذا وصلت ببعضها لاستطاعت أن تدور حول الأرض عدّة مرّات، استطاعت « من جسم واحد هه » تستطيع أن تدور حول الأرض عدّة مرّات، كيف أيضاً لا تختلط ببعضها؟ « هي شبكة الرّي اسمها » قنوات للرّي توصل الماء الإلهيّ الّذي هو الدّم إلى كلّ نقطةٍ من هذه الأرض حتّى ترويها و تسقيها وتبقى حيّةً إلى أن يأذن الله تعالى بإسلام الرّوح إلى بارئها…
انظر إلى تفاصيل وتفاصيل في الجسم… « يعني ما بدنا نقلب الدّرس درس تشريح لأنّه بطّوّل بعده » قد يستغرق الكلام إلى الصّباح ولا نوفّي هذا الجسم جزئاً من حقّه…
فإذا نظرت ورأيت قدرة الله تعالى في جسمك، انتقل بعد ذلك إلى الأرض وانظر إلى ما خلق الله سبحانه وتعالى في هذه الأرض من خلقٍ بديعٍ ليس له مثالٌ ولا شبيه…
انظر إلى الجبال وإلى دورها في تثبيت الأرض { وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ } .
وانظر إلى البحار، وكيف أنّ هذه البحار وظائفها وغاياتها أكثر من أن تحصى، من إمدادٍ بالماء، مع أنّ مياهها مالحةٌ لا تشرب، ولكن الله تعالى يجري لها عمليّة تصفية، تصفية في الأعالي، فيبخّر الماء وحده ويدع الملح، ثمّ ينقل الماء الصّافي المُنقّى منه الملح، ينقله إلى مكانٍ آخر بعيدٍ عن البحر، ثمّ يُنزله مطراً فيه ماءٌ عذبٌ زلال، إذاً البحر يزوّدنا بالماء العذب الزّلال للشّرب، ثمّ انظر الأسماك الّتي فيه وما فيها من خلقٍ بديع، وانظر إلى أنّ البحر أعطانا من النّعم الإلهيّة يمكن ما لم يُعطِنا البرّ…
فإذا نظرت إلى البحر فانظر إلى طبقات الأرض، وكيف أنّ الله تعالى أودع في كلّ أرضٍ كفايتها من النّعم، بينما كان النّاس يظنّون أنّ الأرض الخصبة خيّرة وأنّ الأرض المجدبة لا خير فيها، إذا بهم يأخذون الخير كلّ الخير من الأرض المجدبة، فمن كان يتصوّر أن يُستخرج النّفط من الصّحارى والقفار؟ فيصير النّفط في الصّحراء خيراً من الأشجار والزّروع في الجنان والبساتين، وأكثر ثمناً، وأكثر دوراً في رفع الاقتصاد الوطني للبلاد الّتي فيها صحارى « صار البلد اللّي فيها صحراء هي معناها من البلاد الغنيّة لأنّه » يُتوقّع أن يوجد تحت هذه الصّحراء حقولٌ واسعةٌ من النّفط، من الّذي برمج هذا؟ { هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ } …
الكائنات الحيّة الّتي في هذه الأرض، في برّها وبحرها وفي هوائها كلّ واحدٍ منها عالمٌ قائمٌ بذاته، كما قال تعالى: { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ* } الأسماك أممٌ وأمم، الكائنات الزّاحفة أممٌ وأمم، الحشرات أممٌ وأمم، الطّيور أممٌ وأمم، وفيها من العجائب ما لا نطيق أن نتكلّم في بعضٍ منه الآن…
فمن ذلك على سبيل المثال ما في الأسماك من عجائب وغرائب، فهذا السّمك الّذي يُهاجر ويقطع المحيطات والبحار من أقصى الأرض إلى أقصاها، ويضع بيوضه ثمّ يرجع قافلاً إلى بلده، تُولد ( تفقس ) هذه البيوض ويخرج منها أسماكٌ صغيرة، فإذا بها تتّجه إلى الأرض الّتي جاءت منها أمهاتها، دون أن تخطأ في ذلك، مع أنّ الأرض بعيدةٌ بعيدة، وهي لم تأت وهي تنظر، أتت في جوف البيضة والبيضة في جوف السّمكة، فكيف عرفت طريق العودة؟!!
انظر إلى الطّيور الّتي تهاجر من بلاد إلى بلاد، ثمّ تعود إلى البلاد الّتي هاجرت منها وتقطع المحيطات والقارّات والصّحارى والقفار!! وليس هناك نقاط علاّمٍ إنّما هي تسير بهدىً من الله تعالى.
انظر إلى عالم النّحل، وما في عالم النّحل من عجائب وغرائب، فمن الّذي علّم النّحل أن يختار النّظام السّداسيّ لبناء الخليّة؟!! « ليش النّظام السّداسيّ بالتّحديد؟! » قال: يشترط في أيّ شكلٍ هندسيّ نريد أن نبلّط به بلاطاً معيّناً أن تكون زاويته قابلةً للقسمة على ثلاث مئة وستّين، « لأنّه مجموع الزّوايا حول نقطة 360ْ معناها المثلّث متساوي الأضلاع مُمكن 60ْ درجة قياس زاويته، المربّع مُمكن 90ْ درجة، المسدّس مُمكن 120ْ درجة » لا يخفى أنّ المثلّث فيه ضياعات كثيرة لأنّ الزّاوية صغيرة والأضلاع كثيرة، والمربّع الضّياعات فيه أقلّ، والمسدّس فيه أقلّ قدرٍ من الضّياعات لكبر الزّاوية ولتباعد الأضلاع عن بعضها، من أين عرفت النّحلة هذه القاعدة؟! { وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ } هكذا عرفت…
غريزة؟! « إي قال إيش هي غريزة؟! فسّروها لنا، وأرجونا ياها، وين هي؟! ما لنا شايفينها » إذاً هذه الغريزة لا نفهمها، إنّما نفهم: { وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ }…
ننظر إلى عالم النّمل وإلى عالم البعوض وإلى عالم الذّباب، والشّيء الّذي تراه حقيراً صغيراً هو في حقيقته كبيرٌ عظيم، كنتُ أترجم مقالاً حول عين الذّبابة فقط وما فيها من دقّةٍ هندسيّةٍ وما فيها من تركيبٍ بديعٍ دقيق، فاستغرقت ترجمة المقال حوال خمس عشرة صفحة، فقط حول عين الذّبابة « هي الذّبابة اللّي بنطلّع عليها بنحتقرها، بنقول دبّانه هي إيش بدو يطلع منها » عينها فيها من التّركيب ما يخوض فيه العلماء سنين لاكتشاف أغواره ودقائقه…
فإذا نظرت في السّماء رأيت أعجب من ذلك كلّه، رأيت مجرّاتٍ والمجرّات تحوي كلٌّ منهنّ نجوماً، والنّجم يدور حول كلّ نجمٍ منها غالباً كواكب، والكوكب قد يدور حوله أقمار، وكلّ ذلك يتمّ بحركةٍ متّسقةٍ متناسقةٍ فلا اصطدامات ولا حوادث مروريّة!! حتّى الحوادث مدروسة « بنعرف إنُّه في بيوم من الأيام بعد خمسين سنة بدّو ينزل مذنّب على الأرض بالبقعة الفلانيّة في اليوم الفلاني في السّاعة الفلانيّة في الدّقيقة الفلانيّة، نحن ما بنعرف، شيء مغيّب، بس الله سبحانه وتعالى » خلق شيئاً ووضع له سُنّة، وأراد منّا أن نستنبط هذه السُّنّة…
تسعة كواكب تدور حول الشّمس إضافةً لكوكب عاشر اكتشف حديثاً، إضافةً لمجموعة الكويكبات، ولا ارتطام بينها!! مع أنّ "نبتون" و "بلوتو" مثلاً يتداخل مداراهما حول الشّمس « يعني مدار "نبتون" مدار "بلوتو" هيك ولكن ما ممكن يجو باللّحظة الواحدة بالرّغم أنّهم صار لهم ملايين السّنين عب دوروا!! ولا مرّة، ولا دورة من الدّورات التقو مع بعضون!! لأنّه الله مبرمجهم بحيث يأتي هذا في وقت يأتي هذا بعده أو قبله، ما ممكن يجو مع بعضن يخبطو ببعض، من دون ما يكون في شرطة مرور، من دون ما يكون في إشارات مروريّة » المرور منظّم، إذاً { لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ }…
فإذا نظرت إلى ذلك كلّه، وإلى غيره وسواه وصلت من هذا الكون إلى معرفة المكوّن، كما قال ذلك الأعرابيّ ببساطته وفطرته: ( البعرة تدلّ على البعير وأثر الأقدام يدلّ على المسير، أفسماءٌ ذات أبراج وأرضٌ ذات فجاج وبحارٌ ذات أمواج ألا تدلّ على العليّ القدير؟ )… بلى
فوا عجباً كيفَ يعصي الإلهَ * أمْ كيفَ يجحـدهُ الجاحـدُ!
وفـي كلِّ شيءٌ لـهُ آيـةٌ * تدلُّ علـى أنَّـهُ واحــدُ
{ هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ }، { قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ * }…
نحن لا نتكلّم عن تفاصيل النّظر، وإلاّ لاستغرق بنا الكلام سنين، إذا أردنا أن نخوض في كلّ شيءٍ ينبغي أن ننظر إليه، نحن الآن نتكلّم عن النّظر بحدّ ذاته ونذكر أمثلةً لهذا النّظر ثمّ ندع لكم المجال لأن تنظروا بأنفسكم، ولن نجعلكم تنظرون في داخل الدّرس حتّى لا يكون النّظر سماعاً « نحن بدنا ننظر ما بدنا نسمع » فإذا نظرت لكم وأخبرتكم فأنتم لا تنظرون إنّما أنتم تسمعون فقط، لذلك ذكرنا أمثلةً يمكن أن تراها إذا نظرت وإذا تفكّرت وإذا اعتبرت، فإنّك إذا فعلت ذلك أقمت الواجب الأوّل من حيث التّرتيب، ألا وهو واجب النّظر:
أوّلُ واجـبٍ علـى المكـلّـفِ * إعمالـهُ للنّظــرِ المُؤلَّــفِ
فإن قمت به انتقلت إلى الواجب الثّاني من حيث التّرتيب وقد يكون الأوّل من حيث الأهميّة، ألا وهو واجب المعرفة ( معرفة الله سبحانه )
واجزمْ بأنَّ أوّلاً ممّا يجــبْ * معرفةٌ وفيهِ خُلْـفٌ منتصـبْ
وهذه الّتي نتكلّم في مهيّتها وحقيقتها في درسنا القدم إن شاء الله تعالى والحمد لله ربّ العالمين.
اللّهمّ إنّا نسألك علماً نافعا وقلباً خاشعا ولساناً ذاكراً وعملاً صالحاً مُتقبّلاً، ونعوذ بك من علمٍ لا ينفع وقلبٍ لا يخشع ونفسٍ لا تشبع وعينٍ لا تدمع وعملٍ لا يرفع ودعاءٍ لا يسمع، اللّهمّ حبّب إلينا الإيمان وزيّنه في قلوبنا، وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الرّاشدين، اللّهمّ أرنا الحقّ حقاً وارزقنا اتّباعه وحببنا فيه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه وكرّهنا فيه، اللّهمّ آت نفوسنا تقواها زكّها أنت خير من زكّها أنت وليّها ومولاها، اللّهمّ طهّر قلوبنا من النّفاق وأعمالنا من الرّياء وألسنتنا من الكذب وأعيننا من الخيانة، ربّنا اغفر لنا ولإخواننا الّذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للّذين آمنوا ربّنا إنّك رؤوفٌ رحيم، وصلّ اللّهمّ على سيّدنا محمّدٍ وعلى آله وصحبه وسلّم.

الملفات الصوتية
الملف الأول
الملفات النصية
الملف الأول
أرسل هذه الصفحة إلى صديق
اسمك
بريدك الإلكتروني
بريد صديقك
رسالة مختصرة


المواضيع المختارة
مختارات

[حسن الظن بالله]

حسن الظن بالله يعني أن يعمل العبد عملاً صالحاً ثم يرجو قبوله من الله تعالى ، وأن يتوب العبد إلى الله تعالى من ذنب عمله ثم يرجو قبول الله تعالى لتوبته ، حسن الظن بالله هو ذاك الظن الجميل الذي يأتي بعد الفعل الجميل.
يقول النبي عليه الصلاة والسلام : {لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى.}
قال سبحانه في الحديث القدسي :{ أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني } أنا عند ظن عبدي بي فإذا ظننت أنه يرحمك وأخذت بأسباب الرحمة فسوف يرحمك ، وأما إن يئست من رحمته وقصرت في طلب أسبابها فإنه لن يعطيك هذه الرحمة لأنك حكمت على نفسك والله تعالى سيحكم عليك بما حكمت أنت على نفسك .