التوحيد > الدّرس الأوّل: (مقدمة في علم التوحيد)
الدّرس الأوّل: (مقدمة في علم التوحيد)

جاء في حديث جبريل عليه السَّلام، الذي رواه الإمام مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: {بينما نحن جلوسٌ عند رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، إذ طلع عليه رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه وقال: يا محمّد أخبرني عن الإسلام. قال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمّد رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً. قال: صدقت - قال عمر: فعجبنا له يسأله ويصدِّقه - قال: فأخبرني عن الإيمان. قال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال: صدقت؛ فأخبرني عن الإحسان. قال: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك} إلى آخر الحديث. هذه الأركان الثلاثة تمثل شرائع الإسلام وتحمل معاني نصوصه كلها، الإسلام والإيمان والإحسان.
1421 هـ - 2001 م.

جاء في حديث جبريل عليه السَّلام، الذي رواه الإمام مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: {بينما نحن جلوسٌ عند رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، إذ طلع عليه رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه وقال: يا محمّد أخبرني عن الإسلام. قال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمّد رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً. قال: صدقت - قال عمر: فعجبنا له يسأله ويصدِّقه - قال: فأخبرني عن الإيمان. قال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره. قال: صدقت؛ فأخبرني عن الإحسان. قال: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك} إلى آخر الحديث. هذه الأركان الثلاثة تمثل شرائع الإسلام وتحمل معاني نصوصه كلها، الإسلام والإيمان والإحسان.


علم التّوحيد
الدّرس الأوّل: ( مقدّمة علم التّوحيد ):
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمد لله ربّ العالمين، وأفضل الصّلاة وأتمّ التّسليم على سيّدنا محمّد وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللّهمّ لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، اللّهمّ لك الحمد ملء السّماوات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيءٍ بعد، اللّهمّ لك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، لك الحمد حتّى ترضى، ولك الحمد بعد أن ترضى. اللّهمّ تبرّأنا إليك من أنفسنا ولجأنا إليك لا توجّه قلوبنا إلاّ إليك، ولا تجعل اعتمادنا إلاّ عليك، ولا تجعل رجاءنا إلاّ فيك، ولا تجعل خوفنا إلاّ منك، ولا تجعل أُنسنا إلاّ بك، ولا تجعل حبّنا إلاّ لك يا ربّ العالمين، اللّهمّ تبرّأنا إليك من حولنا وعلمنا وقوتنا ولجأنا إلى حولك وعلمك وقوتك، فإنّك أنت القويّ ونحن الضّعفاء، وإنّك أنت الغنيُّ ونحن الفقراء، وإنّك أنت العزيز ونحن الأذلاّء، وإنّك أنت القدير ونحن العاجزون، وإنّك أنت العليم ونحن الجاهلون، وإنّك أنت علاّم الغيوب، ربّنا لا تكلنا إلى أنفسنا ولا إلى غيرك طرفة عينٍ ولا أقلّ من ذلك، وأصلح لنا شأننا كلّه في الدّين والدّنيا والآخرة، اللّهم آتي نفوسنا تقواها، زكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليّها ومولاها، اللّهمّ إنّا نسألك نفوساً بك مطمئنةً، تؤمن بلقائك وترضى بقضائك وتقنع بعطائك، اللّهمّ طهّر قلوبنا من النّفاق، وأعمالنا من الرّياء، وألسنتنا من الكذب، وأعيننا من الخيانة، ربّنا اغفر لنا ولإخواننا الّذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاًّ للذين آمنوا ربّنا إنك رؤوف رحيم، ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمةً إنك أنت الوهَّاب، اللّهمّ يا مقلّب القلوب والأبصار ثبّت قلوبنا على دينك، اللّهمّ يا مصرّف القلوب صرّف قلوبنا إلى طاعتك، اللّهمّ اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أعمارنا أواخرها، وخير أيامنا يوم نلقاق، اللّهمّ أصلح لنا ديننا الّذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا الّتي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا الّتي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كلّ خير، واجعل الموت راحةً لنا من كلّ شرّ، اللّهمّ أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفَّنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا، اللّهمّ بفيضك العميم عمَّنا، واكفنا اللّهمّ شرّ ما أهمّنا وأغمّنا، وعلى الإيمان الكامل والكتاب والسّنّة جمعاً توفنّا، نلقاق اللّهمّ وأنت راضٍ عنّا..، اللّهمّ صلِّ على سيّدنا محمّدٍ، الفاتح لما أُغلق والخاتم لما سبق، والنّاصر الحقّ بالحقّ، والهادي إلى صراطك المستقيم، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله ربّ العالمين.
أصول الدّين ثلاثةٌ عليها مدار النّصوص أجمعها، فهي إسلامٌ، وإيمانٌ، وإحسانٌ، كما جاء في حديث جبريل عليه السَّلام، الّذي رواه الإمام مسلمٌ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: [بينما نحن جلوسٌ عند رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، إذ طلع عليه رجلٌ شديد بياض الثّياب شديد سواد الشّعر لا يُرى عليه أثر السّفر، ولا يعرفه منّا أحد، حتّى جلس إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمّد أخبرني عن الإسلام. قال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمّد رسول الله وتقيم الصّلاة وتؤتيَ الزّكاة وتصوم رمضان وتحجّ البيت إن استطعت إليه سبيلاً. قال: صدقت - قال عمر: فعجبنا له يسأله ويصدِّقه - قال: فأخبرني عن الإيمان. قال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشرّه. قال: صدقت؛ فأخبرني عن الإحسان. قال: الإحسان أن تعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك ] إلى آخر الحديث. هذه الأركان الثّلاثة تمثل شرائع الإسلام وتحمل معاني نصوصه كلّها، الإسلام والإيمان والإحسان.
• الإيمان: الّذي صار يُسمّى اصطلاحاً بالعقيدة.
• والإسلام: الّذي صار يُسمّى اصطلاحاً بالشّريعة.
• والإحسان: الّذي صار يُسمّى اصطلاحاً بالأخلاق.
عقيدةٌ وشريعةٌ وأخلاقٌ: هي الإسلام بكلّ ما فيه.
وإذا أردنا أن نتبيّن العلاقة الّتي تنتظم هذه الأصولَ الثّلاثة فإنّها علاقة جذور الشّجرة وساقها وفروعها وثمارها، فالدّين شجرةٌ ضاربة الجذور في الأرض، باسقة الأغصان في السّماء، وارفة الظّلال، يانعة الثّمار، لها جذورٌ وساقٌ وثمارٌ إذاً، فجذورها وأصولها العقيدة ( الإيمان )، وساقها وأغصانها الشّريعة ( الإسلام )، وثمارها وأوراقها الإحسان الّذي هو ( الأخلاق )، بحيث إنّه لا تصحّ شريعة مسلم ما لم تصحّ عقيدته ولا تطلب الأخلاق منه ما لم تصحّ شريعته، فالإسلام إنّما هو ثمرةٌ للإيمان كما قال سبحانه { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا } فهم آمنوا ثمّ أسلموا { قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا }.
قال: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك. قال: [ قل آمنت بالله ثمّ استقم ].
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } أي ثمّ عملوا الصّالحات، فالواو في أصل اللّغة تفيد جمعاً بغير ترتيب، ولكنّ البلاغة القرآنيّة والفصاحة الإلهيّة ليس فيها شيءٌ إلا وضع في موضعه، فالواو الّتي هي في أصل اللّغة لا تفيد التّرتيب هي في القرآن تفيد التّرتيب: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } أي ثمّ عملوا الصّالحات أو فعملوا الصّالحات { كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً * } .
حالةٌ خاصّة هي حالة الأعراب الّذين أسلموا قبل أن يؤمنوا ثمّ آمنوا بعد.
وحالةٌ شاذّة هي حالة المنافقين الّذين أسلموا قبل أن يؤمنوا ثمّ لم يؤمنوا بعد؛ فالمنافق أسلم ولم يؤمن، والأعرابيّ أسلم ولمّا يؤمن ثمّ آمن بعد فقال سبحانه فيهم: { قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } أي إنّه يُتوقّع له أن يدخل فهم ليسوا من طبقة المنافقين، بل أسلموا ثمّ آمنوا فتأخر إيمانهم وهذه حالةٌ خاصّة، وأمّا المؤمن السّويّ فهو الّذي يؤمن ثمّ يسلم، قال: يا رسول الله أُسلم أم أُقاتل؟ قال: [ أسلم ثمّ قاتل ]؛ فأسلم ثمّ قاتل فاستُشهد، الحمد لله الّذي أدخله الجنّةّ، إذاً [ أسلم ثمّ قاتل ] فإن قاتل قبل أن يسلم كانت عبادته مردودةً عليه، لأنّ العمل الّذي يلتزم بأصول الشّريعة إن لم يكن مؤسّساً على الإيمان - إيمان العقيدة - فهو ممّا قال الله تعالى فيه: { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَنثُوراً * } .
« إي قال »: الله سبحانه وتعالى عادل، من أسمائه العدل أي العادل، ومن صفاته العدل، فالعدل مصدرٌ وصفةٌ مشبهةٌ في آن معاً، فالعدل ضدّ الظّلم، والعدل ضدّ الظّالم فهو سبحانه مسمّىً بالعدل وموصوفٌ بالعدل، فكيف يقول: { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَنثُوراً * }؟ يُقال: لأنّ أساس العمل فاسد فكان العمل فاسداً، ثمّ إنّ الله فضلاً منه لم يفوّت عليهم العمل بالجملة بل أعطاهم ثوابه في الدّنيا، فقال عليه الصّلاة والسّلام: [ إنّ الكافر إذا عمل عملاً صالحاً عُجّل له ثوابه في الدّنيا، وإنّ المؤمن إذا عمل عملاً صالحاً أطعم به طُعمةً في الدّنيا وجوزي به في الآخرة ] إذاً { آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } فالإيمان أوّلاً هو الجذور الّتي تُؤَسَّس عليها هذه الشّجرة.
ثمّ يكون الإسلام الّذي يمثّل ساق الشّجرة وأغصانها، فأمّا السّاق فإنّه أركان الإسلام وأصوله، وأمّا الأغصان فإنّه الشّرائع الفرعيّة الزّائدة.
وأمّا الأخلاق الّتي تُمَثَّل بالإحسان فإنّها ثمرات هذه الشّجرة، وفوائدها الّتي يظهر أثرها على المجتمع وعلى الأفراد على حدٍّ سواء، أما قال الله سبحانه { إِنَّ الصَّلاة تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ * } ؟ فالصّلاة من الشّريعة والنّهي عن الفحشاء والمنكر ثمرةٌ خلقيّةٌ لهذه الشّريعة، فكان الإحسان ثمرةً للإسلام، وكانت الأخلاق ثمرةً للشرائع، أما قال سبحانه { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ }؟ شريعة ما هي الثّمرة { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون * } : أخلاق، أما قال سبحانه: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ } ؟ فالصّدقة شريعة ولكنّ الطّهارة والزّكاة القلبيّة والنّفسيّة والاجتماعيّة كلّ ذلك من الأخلاق؛ فثمرةٌ من ثمرات الإسلام يُعبَّر عنها بالإحسان.
إذاً جذور الشّجرة العقيدة، وساق الشّجرة وجذعها وفروعها الشّريعة، وثمار الشّجرة الأخلاق، من هنا عُلم أنّه: لابد للمسلم من أن يعود إلى الأصول فيصلحها إذا أراد صلاح الفروع.
المسلم مطالبٌ بأمرين: معرفة وطاعة. فما كان متعلقاً بالمعرفة سُمّي أصلاً، وما كان متعلقاً بالطّاعة سُمّي فرعاً، فعلم الفقه يتعلق بالطّاعات إذاً هو علمٌ بالفروع، علم الحديث يتعلق بالطّاعات إذاً هو علمٌ بالفروع، علم أصول الفقه يتعلق بالطّاعات كذلك إذاً هو علمٌ بالفروع، هو أصلٌ من وجهٍ ولكنّه فرعٌ من وجهٍ آخر، علم الأصول أي أصول الفقه فرعٌ في حقيقة الأمر..
وأمّا المعرفة فإنّها معرفة الله تعالى وتوحيده ومعرفة صفاته ومعرفة الأمور الغيبيّة الّتي لا تُعرف إلاّ بالسّمع، الّتي لا تعرف إلاّ بالنّقل، لذلك كان العلم بهذه الأمور كلّها هو العلم بالأصول وهو أصل العلوم وأسّها ألا وهو علم التّوحيد، الّذي أوجبه الله تعالى على عباده فقال: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ * } ، { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ } هو خطابٌ للمسلم بعد النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام، وكلّ خطابٍ خُوطب به النّبيّ في القرآن الكريم ينصرف إلى سائر المسلمين ما لم يرد دليلٌ على التّخصيص، فإن ورد دليلٌ على التّخصيص توقّفنا في فهم هذا الخطاب على النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام، وأمّا إن لم يرد دليلٌ على التّخصيص فإن أفعال النّبيّ وأقوال النّبيّ وخطاب الله للنّبيّ كلّ ذلك عامٌ لأمته كلّها، لقول الله سبحانه: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً* } .
{ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ } : اعلم يا محمّد - صلوات الله على سيّدنا محمّد - أنّه لا إله إلاّ الله، واعلم يا مسلم كائناً من كنت أنّه لا إله إلاّ الله، هذه العبارة مختصرةٌ مختزلةٌ فيها معانٍ عظيمةٌ هي كلّ علم التّوحيد، داخل عبارة { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ } إذاً علمُ المسلم بالله تعالى هو أصل أعماله وعلومه وما عداه فهو فروع، هذا العلم ينبغي أن يكون عند المسلم يقينيّاً؛ فهو فرض عينٍ على كلّ مسلم، ولكن العلم بالأدلة التّفصيليّة الّذي صار يُسمّى علم الكلام، هذا ليس مفروضاً على كلّ مسلمٍ فرضاً عينياً، إنّما هو مفروضٌ فرضاً كفائيّاً على جماعةٍ من المسلمين إن قاموا به سقطت العقوبة والجريرة عن الباقين. وهذا علمٌ محدث لم يكن في عهد النّبوة و لا الجيل الأوّل ( القرن الأوّل ) ولا القرن الثّاني، إنّما ابتُدِع هذا العلم من بعد ذلك، فلا بدّ قبل كلامنا عن علم التّوحيد بالأدلّة التّفصيليّة - الّذي هو فرضٌ فرضاً كفائيّاً على المسلمين - لابدّ من أن نعود إلى التّوحيد الأوّل الّذي هو مفروضٌ فرضاً عينيّاً على كلّ مؤمن وعلى كلّ مسلم.
التّوحيد الّذي هو بالمعنى اللّغوي: العلم بأنّ الشّيء واحد، والّذي هو بالمعنى اللّغويِّ كذلك في حقّ الله تعالى إفراده بالعبادة، هذا هو أصل الأديان والشّرائع كلّها، من عهد آدم عليه السّلام إلى عهد المصطفى محمّد بن عبد الله عليه صلوات الله وسلامه، فالله أرسل الأنبياء جميعاً ليدعوا النّاس إلى التّوحيد، ولينفوا وينبذوا الشّرك الّذي هو ضدُّ التّوحيد، والإخلاص الّذي هو توحيدٌ أصغر، ينافيه الرّياء الّذي هو شركٌ أصغر.
أوّل نبيٍّ أرسله الله تعالى إلى أهل الأرض كان نوحاً عليه السَّلام، وكان إرسال نوحٍ إلى أهل الأرض بسبب انتشار الشّرك بين النّاس وغياب التّوحيد من عبادتهم، فجاء نوحٌ ليصلح ذلك، وكذلك الأنبياء جاؤوا في عهود شركٍ فجاؤوا ليعودوا بالنّاس إلى عهد التّوحيد الأوّل، وكذلك محمّد عليه الصّلاة والسّلام جاء لينقض الشّرك ويبني التّوحيد، ثمّ جاءت الطّبقات المتأخرة من المسلمين ووضعت أصول علم التّوحيد، لردّ شبهات الطّوائف المنحرفة والفرق الضّالة، فكانت وظيفتهم مشبهةً لوظائف الأنبياء الكرام عليهم السّلام.
أوّل ما دخل الشّرك على النّاس قُبيل عهد نوحٍ عليه السَّلام، تروي الرّواية كيف دخل الشّرك إلى النّاس فتقول: كان في النّاس رجالٌ صالحون معظَّمون في قومهم، منهم وَدٌّ، ومنهم سُوَاعٌ، ومنهم يَغُوثَ، ومنهم يَعُوقَ، ومنهم نَسْر، فلمّا توفيّ هؤلاء القوم الصّالحون الأتقياء، جاء الشّيطان في صورة رجلٍ إلى بعض هؤلاء النّاس وقال: لقد مات هؤلاء الصّالحون، وسوف تنسون أخبارهم، وسوف تفسقون وتفجرون، لأنّ الصّالحين غابوا عنكم فلو صنعتم لهم صوراً وتماثيل تضعونها في ساحاتكم، فإذا رأيتم الصّور تذكرتم الأشخاص فبقيتم على تقواكم وصلاحكم ( تذكرتم التّقي فصرتم مثله ). قالوا: نعم. ففعلوا فصنعوا التّماثيل.
كانوا في العهد الأوّل يتذكَّرون الصّالحين برؤية هذه التّماثيل لا أكثر، ثمّ بعد ذلك صاروا يتبرّكون بهذه التّماثيل، ثمّ بعد ذلك صاروا يُقدّسون هذه التّماثيل، ثمّ بعد ذلك صاروا يعبدونها من دون الله أو يعبدونها مع الله « ما كتير في فرق يعني » لأنّ العبد متى أشرك بالله أو أشرك مع الله غيره فالله يتبرأ منه، فكان حكمه حكم من لا يعبد الله بالأساس، يعني إذا كان يعبد الله والصّنم هل يختلف عمّا إذا عبد الصّنم دون أن يعبد الله؟ « متل بعضن » لأنّه سبحانه يقول [ أنا أغنى الشّركاء عن الشّرك فمن عمل عملاً أشرك فيه معيَ غيري تركته وشركه ] فكأنّه عبد الصّنم دون الله تعالى، عندها أرسل الله تعالى إليهم نوحاً عليه السَّلام، ودعاهم إلى الله سنين طوالاً، ( تسع مئةٍ وخمسين سنة )، هذه الفترة الّتي قضاها نوحٌ داعياً، غير الفترة الّتي قضاها قبل النّبوة وبعد النّبوة ( بعد الطّوفان )، وكانوا مصرّين على شركهم حتّى قالوا لبعضهم: { وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً * } ، إذاً ذلك هو أوّل عهد النّاس بالشّرك (أوّل ما دخل الشّرك إليهم ).
طهَّر الله تعالى البشريّة من الشّرك، وعاش نوحٌ عليه السَّلام ومعه أصحابه ومن نجوا معه في السّفينة حياةً ملؤها التّوحيد والطّهر والإيمان بالله تعالى، شيئاً فشيئاً.. عادت البشريّة إلى سابق عهدها، وجعلوا يشركون بالله تعالى، فأرسل الله إليهم أنبياء ومرسلين دعوهم إلى ترك عبادة ما سوى الله تعالى، ولكنّهم بقوا على ذلك، وكلّ الأنبياء دعوا إلى هذا الشّيء ذاته كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ الله وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم منْ هَدَى الله وَمِنْهُم منْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ } .
لمَّا تكلّم الله تعالى عن الأنبياء الكرام عليهم السّلام قال: { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ * } خاطب بني إسرائيل فقال: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } فخاطب المسلمين بعد ذلك وقال: { وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } قال: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } وقال { الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُهْتَدُونَ * } ..، قالوا: أيُّنا لم يلبس إيمانه بظلم؟! فقال { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * } أي الّذين آمنوا ولم يشركوا { لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ*} أمّا إن كان ظلمهم دون الشّرك، فهذا لا يمنع الأمن الإلهيّ لهم يوم القيامة، إذاً كلّ ذلك دليلٌ على أن الغاية الأولى والعظمى لدعوات الأنبياء والمرسلين أجمعين، كانت الدّعوة إلى توحيد الله تعالى { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } هذه الآية وما بعدها جمعت الوصايا العشر، وأوَّل الوصايا العشر: { أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا } ..
إذاً الشّرك هو المحظور الأوّل، والتّوحيد هو المأمور الأوّل، كما في حديث معاذ بن جبلٍ رضي الله تعالى عنه قال: [ كنت رديف النّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم يوماً على حمار، فقال لي: يا معاذ أتدري ما حقّ الله على العباد وما حقّ العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنّ حقّ الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً. ثمّ قال لي: أتدري ما حقّ العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنّ حقّ العباد على الله ألا يعذّب من لا يشرك به شيئاً. قلت: يا رسول الله ألا أبشر النّاس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا ]، جاء في الحديث عند ابن حبّان و الحاكم عن رسول الله عليه الصّلاة والسّلام: [ أنَّ موسى عليه السَّلام قال: يا ربّ علمني شيئاً أدعوك به وأذكرك. قال: قل لا إله إلاّ الله. قال: يا ربّ إنّ النّاس كلّهم يقولون لا إله إلاّ الله ] « إي أنا بدي شيء خاصّ فيه شيء متميّز.. » [ قال: يا موسى لو أنّ السّماوات السّبع وعامرهن والأرضين السّبع وضعت في كفّة ووضعت لا إله إلاّ الله في كفّة لرجحت كفّة لا إله إلاّ الله ] إذاً المقصود الأعظم من الشّرائع: التّوحيد { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إلاَّ اللهُ }
العرب مَنّ الله تعالى عليهم بأنْ بنى في أرضهم أعظم بيتٍ له - وأوّل بيتٍ لعبادة الله تعالى بناه إبراهيم و إسماعيل عليهما السّلام - فكانوا لذلك موحّدين مؤمنين في عهد إبراهيم وما بعده، ولكن كما دخل الشّرك إلى من قبلهم دخل إليهم، بدأ يتسرّب إليهم شيئاً فشيئاً، وكان أوّل من أدخل الشّرك إلى بلاد العرب ( عمرو بن لحيّ ) من خزاعة، كان عمرو بن لحيّ هذا الّذي رُوي في حديث فيه ضعف قول النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام [ رأيته يجر قصبه في النّار ] رآه معذباً في النّار لأنّه سنّ سنّةً سيئة فحمل وزرها ووزر من عمل بها ( عبادة الأصنام ) ذهب إلى بلاد الرّوم ( إلى بلاد الشّام، وكان الرّوم يحتلّونها ) فرآهم يعبدون الأصنام، وقومه يعبدون الله تعالى ويعظّمون الكعبة، على دين إبراهيم الخليل عليه السَّلام، فقال لهم: ما تصنعون بهذه الأصنام؟ قالوا: هذه الأصنام تنصرنا في معاركنا وتنزل المطر لنا وتحمينا وترزقنا. قال: والله إنّنا لمحتاجون لمثل هذا ألا تعطونني صنماً أعبده وقومي؟ قالوا: بلى. فأخذ منهم صنماً وسافر به إلى بلده، رجع به إلى أرض العرب، وأخبر قومه أنّ هذا الصّنم، أنّ هذه الأحجار المباركة المقدّسة تحمي وترزق وتنزل المطر، فصدّقوه لغبائهم وسخافة عقولهم، وجعلوا يعبدون الصّنم، ثمّ صار الصّنم أصناماً، ثمّ صارت الأصنام معابد، وانتشرت المعابد في أرجاء بلاد العرب، فكان لقريشٍ أصنام، وكان لثقيفٍٍ أصنام، وكان لسائر قبائل العرب أصنامٌ تختصّ بها كلّ قبيلةٍ دون سواها، حتّى جاء النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام أرسله الله تعالى ليبطل ذلك كلَّه.
وأنزل الله سبحانه: { أَفَرَأَيْتُمُ اللاّتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُثْنَى*} فأبطل عبادة اللاّت وعبادة العزّى، وعبادة مناةٍ وعبادة الشِّعرى، وأبطل عبادة كلّ ما يعبد من دون الله تعالى { أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ } والطّاغوت: هو كلّ ما عُبد من دون الله تعالى.
وأصل الطّاغوت من الطّغيان، على وزن (الفعلوت)، كما يقال الملكوت والرّحموت والجبروت، ولكن قُلب موضع الغين وحرف العلّة فصار على وزن (الفلعوت) عوض (الفعلوت)، لأنّ الأصل أنّ الغين قبل حرف العلّة في ( طغى، يطغى ) ولكن قيل طاغوت ولم يُقل طغووت لثقل اللّفظ، فهو إذاً مشتقٌ من الطّغيان، وهو اسم علمٍ لكلّ ما عبد من دون الله تعالى، كصنمٍ أو كوكبٍ أو بشرٍ أو شيطانٍ، فكلّ هؤلاء داخلون في الطّاغوت: { اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * } .
إذاً كانت رسالة النّبيّ محمّدٍ عليه الصّلاة والسّلام متممةً وموائمةً لرسالات الأنبياء والرّسل السّابقين، وكانت دعوةً إلى التّوحيد الخالص وإلى نبذ كلّ ما يعبد من دون الله تعالى، وهذا يعني أنّ رسالة المصطفى عليه الصّلاة والسّلام لا تختلف أبداً عن رسالات الأنبياء السّابقين في جانب العقيدة - الّذي هو الأصل والأساس والّذي هو جذور الشّجرة - وإنّما تختلف في الجذع، في الشّريعة من عباداتٍ ومعاملات، ثمّ تتّفق أيضاً بالثّمرات بالأخلاق، فكانت أوجه الاتفاق أكثر بكثير من أوجه الاختلاف، حتّى قال عليه الصّلاة والسّلام: [ الأنبياء أخوة عَلاَّت أمهاتهم شتَّى ودينهم واحد ]..، الدّين اسمه الإسلام لا يختلف.
لمّا تكلّم الله عن دينٍ اسمه الإسلام كان يتكلّم عن دين المسيح، والكليم، والخليل.. فقال سبحانه: { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ } ، إذاً حتّى الّذين أوتوا الكتاب دينهم الإسلام إنّما الشّرائع هي الّتي تتفاوت { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ * } ، حتّى في عهد اليهوديّة: { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ * }، حتّى في عهد النّصرانيّة حيث النّصرانيّة مقبولةٌ قبل بعثة محمّدٍ عليه الصّلاة والسّلام: { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ * }.
فكلّهم اسم دينهم الإسلام { مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا } ..، فإبراهيم مسلم، وإسماعيل مسلم وهما اللّذان دعَوَا: { رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * } ، يعقوب مسلم وأبناؤه الأسباط الاثنا عشر - الأنبياء عليهم السّلام - مسلمون: { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * } ، عيسى بن مريم عليه السَّلام مسلم، وأتباعه الحواريّون رضوان الله عليهم مسلمون كذلك، وهكذا قال الله سبحانه: { ... آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * } ..
موسى عليه السَّلام دينه الإسلام وشريعته اليهوديّة، عيسى عليه السَّلام دينه الإسلام وشريعته النّصرانيّة، محمّدٌ عليه الصّلاة والسّلام دينه الإسلام وشريعته الإسلام، فقد وافق اسم الشّريعة اسم الدّين عند هذا النّبيّ تشريفاً وتكريماً له، وإيذاناً بأنّ مراحل التّطور التّشريعيّ قد اكتملت، فتطابق اسم الشّريعة مع اسم الدّين، لأنّها الحلقة الأخيرة في سلسلة التّطور التّشريعيّ.
الدّين: كما عرّفه العلماء ( طبعاً التّعريف الاصطلاحيّ غير التّعريف اللّغويّ ) ففي التّعريف اللّغويّ: هو كلّ ما يُتدين به سواءٌ كان حقّاً أم باطلا. ففي المعنى اللّغويّ الإسلام دين، والنّصرانيّة دين، واليهوديّة دين، والبوذيّة دين، والشّينتو ( دين أهل اليابان ) دين، وعبادة كونفوشيوس ( دين أهل الصّين ) كذلك دين، والإلحاد دين، وعبادة الأصنام دين، هذا بالمعنى اللّغويّ.
وأما بالمعنى الاصطلاحيّ: فالدّين كما عرّفه العلماء: هو وضعٌ إلهيّ سائق لذوي العقول السّليمة باختيارهم المحمود لما هو خيرٌ لهم بالذّات.
إذاً الدّين: هو وضع إلهيّ سائق لذوي العقول السّليمة باختيارهم المحمود لما هو خيرٌ لهم بالذّات. ( وضع إلهيّ )، وبالتّالي قانون المرور لا يُسمّى ديناً، القوانين الوضعيّة بأسرها لا تسمى ديناً، وضع إلهيّ. ( سائقٌ ): إذاً فيه سوقٌ من الله سبحانه. ( لذوي العقول السّليمة ): فخرج بذلك عبادة المجنون حتّى ولو وافقت الدّين، فلا تسمّى ديناً لأنّه ليس ذا عقل سليم. ( باختيارهم المحمود ): فخرجت بذلك عبادة الملائكة، وخرج بذلك انقياد البهائم، لأنّهم لا يتديّنون باختيارهم. ثمّ لمَّا قال ( باختيارهم المحمود ) خرج بذلك الاختيار المذموم الّذي لا يوافق الدّين الإلهيّ. ( لما هو خيرٌ لهم بالذّات ): أي خيرٌ ذاتيٌّ لهم في الدّنيا وفي الآخرة، وهذا التّعريف لا ينطبق إلا على شريعة الإسلام خصوصاً لأنّها خيرٌ للعباد ذاتيٌّ ملازمٌ لهم في الدّنيا والآخرة.
هناك فوارق كبيرةٌ بين شريعة الإسلام والشّرائع السّابقة، وإن كان الدّين كعقيدة واحداً ولكن «في» فارق كبير، الشّرائع السّابقة قد لا تكون فيها مصلحةٌ مطلقةٌ للعباد، كيف ذلك؟ قد تكون الشّرائع السّابقة عقوبةً للعباد على تقصير أو عصيان؛ وبالتّالي العقوبة ليست مصلحة مطلقة، كما قال تعالى: { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ * } لمّا تكلّم عن المحرّمات في الطّعام على اليهود { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ.. } حتّى قال في نهاية الآية: { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ * } فصارت الشّريعة جزاءً، وهذا لا يمكن أن يكون فيه خير مطلق، لأنّه لا يوافق غير أمة محدودة الوقت ومحدودة المكان، وأمّا الإسلام فليس فيه ذلك، الشّرائع السّابقة لم تُحفظ لأنّها مؤقّتة، وأمّا شريعة الإسلام فقد حُفظت لأنّها مؤبّدة، وبالتّالي الدّين بالمعنى الخاصِّ الّذي ذكرناه لا ينطبق إلاّ على شريعة الإسلام وعقيدة الإسلام ( الّتي توافق عقائد الأنبياء السّابقين).
كلّ الأنبياء إذاً دعوا إلى عقيدةٍ واحدة، وجاء المصطفى عليه الصّلاة والسّلام ليدعو إلى هذه العقيدة، فآمن الصّحابة الكرام دون أن يناقشوا، وذلك أنّ التّوحيد - الّذي هو موضوع حديثنا بإذن الله في سلسلةٍ طويلة - فطرةٌ باطنةٌ موجودةٌ في جوف كلّ إنسانٍ، موجودةٌ في قرارة نفس كلّ إنسانٍ، وإن شوّهت بسبب الظّروف، وإن شوّهت بسبب البيئة، ولكن هي في حقيقة الأمر كامنةٌ، تحتاج إلى من يستخرجها ويستنبطها ويخرجها من الباطن إلى الظّاهر.
فإذا علمنا أصل التّوحيد وأنّه موجودٌ في دعوات الأنبياء السّابقين والمرسلين كلّهم، وجب علينا أن نعلم ما هي طريقة التّوحيد، وما هي السّبيل إلى معرفة الله تعالى بذاته وصفاته وأفعاله.
طبعاً قلنا إنّ التّوحيد: هو أفراد الله تعالى بالعبادة، وهو تنزيه الله تعالى عمّا يخطر في الأفهام، وعمّا يُشتبه في الأوهام، وهو: الاعتقاد بوجود ذاتٍ خالقةٍ مدبّرةٍ واحدةٍ، لا يُشبهها مُشبه ولا يشترك معها شريك ولا تنقسم.
فالتّوحيد له أركانٌ ثلاثة: توحيدٌ في الذّات، وتوحيدٌ في الصّفات، وتوحيدٌ في الأفعال.
• فتوحيد الله تعالى في ذاته: هو نفي القسيم عنه.
• وتوحيده في صفاته: هو نفي الشّبيه عنه.
• وتوحيده في أفعاله: هو نفي الشّريك عنه.
فالله واحدٌ في ذاته لا ينقسم، بخلاف ما قال النّصارى حيث قالوا: إنّ الله ثالث ثلاثة، قالوا إنّ الإله الواحد ثلاثة ( منقسمٌ إلى ثلاثة ) إلى الأب والابن والرّوح القدس { تَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوَّاً كَبِيراً * } فأشركوا مع الله المسيح وجبريل، وأحياناً يشركون مع الله المسيح وأمّه مريم، فهذا ضدّ التّوحيد ولا يمكن أن يجتمع توحيدٌ وشرك، ( كما قال اليونان: حيث أثبتوا لله تعالى شركاء في الأفعال )، إذاً النّصارى أثبتوا لله قسيماً في الذّات، إذاً هم أشركوا شركاً ينافي توحيد الذّات.
وأمّا توحيد الصّفات: فهو أن نعتقد أنَّ الله تعالى لا تُشبه صفاته صفات الذّوات الآخرين، فهو مبصرٌ وبصره لا يشبهه بصر، وهو سميعٌ وسمعه لا يشبهه سمع، وهو قديرٌ وقدرته لا تشبهها قدرة، وهو حيٌّ وحياته لا تشبهها حياة، وهو متكلّمٌ وكلامه لا يشبهه كلام، وهو مريدٌ وإرادته لا تشبهها إرادة، هذه الصّفات لا تشبهها صفات غيره سبحانه،إذاً توحيد الصّفات هو نفي الشّبيه عن الله تعالى بصفاته.
وأمّا توحيد الأفعال فهو نفي الشّريك عن الله بأفعاله، كما قال اليونان حيث قالوا: إنَّ هنالك إلهاً خلق البحر، وإلهاً خلق الحب، وإلهاً للشعر، وإلهاً للجمال، فعندهم ( أبولو ) مثلاً إله الشّعر والموسيقى، ( فينوس ) إله الجمال والحب، وهكذا حتّى يقولوا إنّ ( زيوس ) هو كبير الآلهة المتربّع على عرشه فوق جبل أورمب، هذا لا يتفرّد به اليونان، بل كلّ الشّعوب الوثنيّة الّتي عاشت في ذلك الوقت فعلت مثل ذلك، فالسّوريون في تلك الأوقات كانوا يشركون الشّرك ذاته، فكان هناك آلهةٌ تختص كلّ إله منها بشيء، فهناك إلهةٌ للينبوع، وهناك إلهةٌ للخصب والنّماء، وهناك إلهةٌ للحرب وما إلى هنالك، فلمّا دخل الإسكندر المقدوني هذه البلاد وافتتحت في بلادنا عصورٌ جديدة سميت بالعصور الهلينستيّة، علّم النّاس في هذه البلاد شركاً يشبه شرك اليونان، فجعل كبيراً للآلهة هو ( حَدد ) وجعله يتربّع أيضاً على عرش جبل هو جبل الأقرع، ليشبه جبل أورمب في ذلك، إذاً كلّ الشّعوب كانت تعاني من ذلك، في العراق، في مصر، كلّهم كانوا مشركين ويعتقدون تعدّد الآلهة الّتي تخلق ( تعدد الأفعال ).
المجوس في بلاد الفرس كانوا مشركين ولكن « ما في آلهة كتير كتيرة اتنين بس » فكانوا يعتقدون بوجود إلهٍ للخير وإله للشرّ « ليه؟! إي قالوا ما يمكن إنُّه الإله الخيّر يخلق الشّر » وأخذ هذا عنهم المعتزلة القدريّة الّذين قالوا: لا يجوز على الله تعالى أن يخلق الشّرّ ( الله يخلق الخير ونحن نخلق الشّر بأنفسنا ) فكانوا كما قال عليه الصّلاة والسّلام مجوس هذه الأمة عندما قال: [القدريَّة مجوس هذه الأمة]..، لأنّهم نفوا القدر المطلق الّذي ينتظم الخير والشّرّ على حدٍّ سواء «لأ» قالوا الخير من الله والشّر منّا ( أدباً مع الله ) ولكن هذا الأدب أوصلهم إلى الشّرك في حقيقة الأمر.
فتوحيد الله في ذاته إذاً نفيٌ للقسيم، وفي صفاته نفيٌ للشبيه، وفي أفعاله نفيٌ للشريك، ومن شكّ في ركنٍ من أركان التّوحيد الثّلاثة هذه كان توحيده منتقضا، باطلا، وكان مشركاً بالله تعالى.
الله تعالى ذاته ذات إله، وذات الإله فوق عقول المخلوقين العبيد العاجزين القاصرين الجهلة من أمثالنا، فلا يمكن لعقل الإنسان - هذا المخلوق الكائن القاصر - لا يمكن أن يوقن وأن يدرك بأبعادٍ فوق مستواه، ولا يمكن أن يدرك حقيقة الله تعالى وكنهه، من هنا كان السّمع هو الوسيلة الوحيدة للتعرّف على هذا الإله بالتّفصيل.
العالم ينقسم بالنّسبة لنا إلى عالمين: عالم الغيب وعالم الشّهادة، عالم الشّهادة نتعرّف عليه بالبصر، وعالم الغيب نتعرّف عليه بالسّمع، وإذا أردنا التّدقيق فعالم الشّهادة نتعرّف عليه بالحواسّ والعقل، وعالم الغيب نتعرّف عليه بالشّرائع والنّقل، فلا ينبغي أن يزعم الإنسان أنّه بحواسِّه وببصره خصوصاً قادرٌ على الإحاطة بالعالم كلّه « لأ » فقط عالم الشّهادة، وينبغي أن يوقن أنّ ثمّة عالماً آخراً، هو عالم الغيب لا يستطيع أن يدركه بعقله، فينبغي أن يطلب النّقل حتّى يعرفه، وهذه صفة المؤمنين { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } ..، أي يؤمنون أنّ هناك عالماً غيبيّاً خفيّاً لا نستطيع التّعرف عليه بأنفسنا، فلا بدّ من أن يخبرنا بذلك مُخبر.
حتّى في عالم الشّهادة هنالك غيوب، الآن هل رأيت أنت شيئاً اسمه بروتون؟ وشيئاً اسمه نيترون؟ وشيئاً اسمه إلكترون؟ لا. مع أنّ هذا من عالم الشّهادة ولكن أنت قاصرٌ عن أن تراه لذلك احتجت إلى أن يُخبرك به عالِمٌ بهذه الأمور مُختصّ، أهل الاختصاص رأوا هذه الأمور فأخبروك بها.
هل رأيت أنت هذه المجرّات الكثيرة العديدة الّتي يتكلّم عنها علماء الفلك؟ لا. فكيف تصدّق بوجودها؟ لأنّ أهل الاختصاص أخبروك بها.
هل رأيت أنت الصّبغيات السّتة والأربعين الّتي تشكل البويضة الملقّحة، والّتي هي بداءة الإنسان؟ ثمّ هل رأيت المورّثات الكثيرة، الكثيرة الّتي فيها الصّفات الخِلقيّة التّفصيليّة للإنسان؟ لا. فكيف صدّقت بوجودها؟ لأنّ أهل الاختصاص أخبروك بذلك، كلّ هذا من عالم الشّهادة، وأنت لا تستطيع أن تتعرّف عليه بالبصر فاكتفيت بالسّمع، اكتفيت بالتّصديق، اكتفيت باليقين بقول من قال.
فإذا كان هذا في عالم الشّهادة مع حدوده فمن باب أولى أن يكون في عالم الغيب مع لا تناهيه في الحدود، من هنا كان الإنسان مُلزماً بأن يطلب السّمع للتّعرّف على عالم الغيب، فإذا كان عالِم الوراثة قادراً على أن يُخبر النّاس بدقائق المورّثات، وإذا كان علم الفلك قادراً على أن يخبر النّاس بدقائق الأفلاك، فإنّ الأنبياء والمرسلين هم الّذين يخبرون النّاس بدقائق عالم الغيب، وكلّ من أنكر عالم الغيب فهو مخبولٌ في عقله، لأنّه يزعم أن كلّ موجودٍ يُرى، والموجودات الّتي لا تُرى كثيرةٌ يصعب حصرها، لا يُكذِّب بذلك إلاّ مخبولٌ مجنون، وما دامت موجوداتٌ لا تُرى وهي في عالم الشّهادة، فمن باب أولى أن تُوجد موجوداتٌ لا تُرى في عالم آخر يُسمّى عالم الغيب.
وذلك أنّ الغيب درجات؛ فهنالك غيبٌ نسبيّ وهنالك غيبٌ مطلق، والغيب النّسبيّ درجتان: فهنالك غيبٌ مكانيّ وهنالك غيبٌ زمانيّ، وأدنى درجات الغيب فيما أرى: الغيب النّسبيّ المكانيّ، وذلك أنّ تجاوزه سهلٌ متيسّر، فالغيب المكانيّ يمكن تجاوزه وجعله شهادةً بعد أن كان غيباً، وجعله ظاهراً بعد أن كان خفيّاً؛ بوسائل كثيرة، أنت لا تعرف ماذا يحدث خلف هذا الجدار لأنّ هذا غيبٌ مكانيّ، ولكن لو أنّ واحداً نادى بصوت عالٍ من الخارج لأمكن أن يُخبرك بما يحدث، أنا لا أعرف ماذا يحدث الآن في أستراليا، لأنّها بعيدةٌ بُعداً شاسعاً أكثر من حدود الحواسّ الّتي أمتلكها، ولكن إن اتصلت الآن بالهاتف، أو بشبكة المعلومات الدّوليّة ( الإنترنت ) أو غيرها بواحدٍ يعيش في تلك البلاد وسألته عمّا يحدث عندهم أستطيع أن أعرف، كان غيباً فصار شهادة، الغيب المكانيّ يسهل تجاوزه ببعض هذه الوسائل، كان غيباً ماذا يوجد خارج نطاق المجموعة الشّمسيّة فصار شهادةً مع اختراع التّلسكوبات المتطورة الإلكترونيّة (المراصد الفضائيّة الضّخمة) كان غيباً ماذا يوجد في الجزيئات، فصار شهادةً بعد اختراع الميكروسكوبات الإلكترونيّة الدّقيقة كذلك، إذاً هذا غيبٌ مكاني، كان غيباً ما يحدث داخل رحم المرأة، فلمّا اخترعوا أجهزةً تستطيع اختراق هذه الطّبقات بالأشعة المختلفة، استطاعوا أن يعرفوا ماذا يحدث داخل رحم المرأة، كيف يتشكل هذا الجنين، وهل هو ذكر أم أنثى، استطاعوا فعل ذلك كلّه.
وأمّا الغيب الزّمانيّ فإنّ تجاوزه أصعب، وفي حال تجاوزه فإنّ تجاوزه يكون بردّه إلى الغيب المكانيّ، مثلاً: لا نعرف ماذا يحدث غداً في الطّقس ( في المناخ ) يا ترى يكون الجو صاحياً، أم غائماً، أم ماطراً، يكون ضباب، يكون ثلج، يكون برد؟ لا نعرف ذلك هذا غيبٌ زمانيّ، ولكن الأرصاد الجويّة تستطيع أن تخبرنا بما يحدث غداً، هل لأنّهم تجاوزوا الغيب الزّمانيّ بشكلٍ مباشر؟ لا. بل لأنّهم ردّوا الغيب الزّمانيّ إلى الغيب المكانيّ فاستطاعوا تجاوزه، كيف؟ رأوا غيمةً متجهةً باتجاه بلادنا، وقدّروا أنّها تصل إلى هذا المكان في يوم كذا وكذا، وقدّروا أنّ عندنا منخفضاً جويّاً إذا دخلت الغيمة فيه فسوف تمطر، فعلموا أنّ الغيمة ستمطر في هذا المكان في هذا الزّمان، مثل ما إذا رأيت صاحبك من بعيد وهو آتٍ إليك فالتفت إلى أصحابك وهم لا يرونه، قلت لهم: بعد دقيقتين سوف يصل إلينا فلان « إي » هذا اختراق للغيب الزّماني كيف يمكن ذلك « إي في الحقيقة هدا غيب مكاني لأنه أنت » رأيته من بعيد وقدّرت من خلال مسألة المكانيّة أنّه سيصل في الزّمان المعين، كذلك معرفة ما في رحم المرأة، لمَّا صاروا يقولون نحن نعلم جنس الجنين ذكر أم أنثى، قال لهم بعض العلماء ( علماء الدّين ) البدائيين الّذين لم يفهموا حقائق الدّين، قالوا: لا هذا كفر « أي واحد بيقول أنا بعرف إيش في برحم المرأة ذكر ولا أنثى هدا كافر. ليش؟ قال الله » سبحانه وتعالى قال: { إِنَّ اللهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ } [ في خمسٍ لا يعلمهن إلاّ الله ]، نقول: لا بأس ولكن هل الله جلّ وعلا قد صرّح يعلم ما في الأرحام ذكر أم أنثى؟ « لأ » يعلم ما في الأرحام بأشياء أخرى، من هنا أمكن معرفة ما في الأرحام بالوسائل العلميّة، قبل أن يولد الطّفل بشهورٍ عدّة، يُخبر الجهاز بأنَّ هذا الطّفل ذكرٌ أو أنثى، غيب زمانيّ ولكن في حقيقة الأمر السّبب، السّبب هو اختراق الغيب المكانيّ، باستطاعة هذا الجهاز أن يدخل إلى داخل الرّحم ويعرف ماذا في الدّاخل، ولكن لو لم يكن هناك مجالٌ لاختراق الغيب المكانيّ لما أمكن اختراق الغيب الزّمانيّ، من رتبة أعلى لأنّه ( الغيب الزّماني أعلى رتبةً من الغيب المكانيّ ) يمكن اختراق الغيب الزّمانيّ مجرّداً في حالة الإلهام وفي حالة الوحي، هذه حالة خاصّة ( الإلهام والوحي )، { الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ } هذا غيب مكانيّ، « شيء عب يحدث » على بعد آلاف الأميال، { غُلِبَتِ الرُّومُ * }، العرب « ما بيعرفوا لأنّه ما كان في » مراسلون صحفيّون « ولا كان في » وسائل بث توصل الخبر مع حدوثه وقبل حدوثه أحياناً، وبالتّالي هذا غيب مكانيّ { غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ } والمعجزة الأعظم من ذلك { وَهُم مِن بَعْد ِغَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ } هذا غيبٌ زمانيّ، لذلك قدّم الأدنى وأخّر الأعلى ليكون أبلغ في التّعبير، شيءٌ معجزٌ أن يُعلم شيءٌ يحدث على آلاف الأميال، ولكنّ المعجز أكثر أن يعلم شيءٌ سيحدث بعد بضع سنين. الغيب المكانيّ والزّمانيّ نسبيّان إذاً، يمكن أن يُكشفا إن بوسائل ماديّة أو وسائل روحيّة كالكشف، الإلهام، الوحيِّ، وهذا أمثلته كثيرة، وأمّا الغيب المطلق فإنّه معرفة الغيوب كلّها بما فيها ميعاد يوم القيامة، فإذا أمكن للإنسان أن يعرف شيئاً من الغيوب النّسبيّة، فإنّه محالٌ أن يعرف الغيب المطلق لأنّ هذا: أوّلاً فوق حدود تفكيره وعقله وإدراكاته وحواسِّه. ثانياً ممّا اختصّ به الله سبحانه وتعالى. من هنا كان على الإنسان أن يعتمد السّمع وسيلةً للمعرفة فيما لم يره، وأن يعتمد النّقل عندما يعجز العقل، وهذه هي وظيفة الأنبياء أن يعرّفونا بالله لأنّ حقيقة الله غيب، وعقولنا عاجزةٌ عن درك الغيب، لذلك كان النّقل هو وسيلة معرفة الله تعالى.
وقبل أن نتكلّم عن معرفة الله تعالى لا بدّ أن نتكلّم عن أصل هذا العلم، الّذي هو مفروضٌ فرضاً كفائيّاً بعد أن تكلّمنا عن أصله إذ هو مفروضٌ فرضاً عينياً ( التّوحيد بشكل عام ).
لمّا توفّي النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام حدثت فتنٌ كثيرة، كان منها ابتداع بدع في الإسلام ليست منه، فخرجت طوائف وفرقٌ ابتدعت أقوالاً ليس لها في الإسلام أصل ولا مستند، فخرجت طائفةٌ من المسلمين المخلصين الغيورين لتردّ على أولئك، فوضعوا أصول علمٍ جديدٍ اسمه علم التّوحيد، والتّوحيد كما قلنا: هو الاعتقاد الجازم بوحدانيّة الله تعالى ( وحدانيّة الذّات والصّفات والأفعال ) تنزيه الله تعالى عمَّا يخطر في الأفهام، وعمَّا ما يُشتبه في الأوهام، وضعوا أصول علم يُسمّى علم الكلام، ينافحون به عن العقيدة الإيمانيّة التّوحيديّة.
وعلم الكلام كما عرّفوه: هو علمٌ يتضمن الحِجَاج عن العقائد الدّينيّة، عن العقائد الإيمانيّة، بالحجج العقليّة، ويردّ شبهات المبتدعة الّذين خالفوا عقائد السّلف وعقائد أهل السّنّة.
إذاً كان سبب وضع هذا العلم: الرّدّ على أصحاب العقائد الفاسدة، كالرّافضة ( الشّيعة )، والمعتزلة والمرجئة والجبريّة، الكرّاميّة، الجهميّة، سُمّوا بأسماءٍ كثيرة تصديقاً لقول المصطفى عليه الصّلاة والسّلام، كما روى التّرمذي وغيره وقال: حسنٌ صحيح: [ افترقت اليهود والنّصارى على اثنتين وسبعين فرقة وستفترق أمتي على ثلاثٍ وسبعين فرقة كلّها في النّار إلاّ واحدة ] إذاً بدؤوا يفترقون ويفترقون، فخرجت طائفة المعتزلة كما قلنا، وخرجت طائفة الشّيعة وغيرهم، وكان وضع أصول وقواعد علم التّوحيد وعلم الكلام متأخراً على وجود هذه الطّوائف، وكان هذا العلم يعتمد على العقل والمنطق.
فما هي ملابسات نشوئه؟ وما هي هذه الفرق وأصولها العامّة؟ ثمّ ما هي السّبيل لمعرفة الله تعالى؟ هل العقل هو الطّريق الأوحد أو الطّريق الأعظم؟ أم إنّ هناك طرقاً أخرى أم إنّ هناك طرقاً أهمّ وأعظم؟ كلّ هذا ندع الحديث عنه إلى الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى والحمد لله ربّ العالمين.
اللّهمّ إنّا نسألك علماً نافعاً، وقلباً خاشعاً ولساناً ذاكراً وعملاً صالحاً متقبلاً، ونعوذ بك من علمٍ لا ينفع، وقلبٍ لا يخشع، ونفسٍ لا تشبع، وعينٍ لا تدمع، وعملٍ لا يرفع، ودعاءٍ لا يسمع، اللّهمّ إنّك عفوٌّ تحب العفو فاعفُ عنّا، اللّهمّ حبّب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الرّاشدين، اللّهمّ أرنا الحقّ حقّاً وارزقنا اتباعه وحبّبنا فيه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه وكرّهنا فيه، اللّهمّ آتي نفوسنا تقواها زكّها أنت خير من زكاّها أنت وليها ومولاها، اللّهمّ اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلاّ أنت، واصرف اللّهمّ عنّا سيّئ الأخلاق لا يصرف عنّا سيّئها إلاّ أنت، اللّهمّ أرنا الحقّ حقّاً وارزقنا اتباعه وحبّبنا فيه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه وكرّهنا فيه، وصلِّ اللّهمّ على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم والحمد لله ربّ العالمين.

الملفات الصوتية
الملف الأول
الملفات النصية
الملف الأول103 KB
أرسل هذه الصفحة إلى صديق
اسمك
بريدك الإلكتروني
بريد صديقك
رسالة مختصرة


المواضيع المختارة
مختارات

[حسن الظن بالله]

حسن الظن بالله يعني أن يعمل العبد عملاً صالحاً ثم يرجو قبوله من الله تعالى ، وأن يتوب العبد إلى الله تعالى من ذنب عمله ثم يرجو قبول الله تعالى لتوبته ، حسن الظن بالله هو ذاك الظن الجميل الذي يأتي بعد الفعل الجميل.
يقول النبي عليه الصلاة والسلام : {لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى.}
قال سبحانه في الحديث القدسي :{ أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني } أنا عند ظن عبدي بي فإذا ظننت أنه يرحمك وأخذت بأسباب الرحمة فسوف يرحمك ، وأما إن يئست من رحمته وقصرت في طلب أسبابها فإنه لن يعطيك هذه الرحمة لأنك حكمت على نفسك والله تعالى سيحكم عليك بما حكمت أنت على نفسك .